* جميل ظاهري
لا يمكن في مقال قصير كهذا استعراض الحياة الكريمة لتاسع أنوار الهداية والامامة الامام محمد بن علي الجواد عليهما السلام، ذلك الامام الهمام الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون على طول الزمن شأنه شأن عمه الامام الحسن بن علي المجتبى، وكذا الأمر مع حفيده الامام الحسن العسكري وأكثر من سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام أجمعين، الذين لم ينصفهم التاريخ كونه كتب بأقلام أموية وعباسية سلفية وهابية تكفيرية إجرامية تكن لأهل بيت الرسالة والنبوة والامامة حقداً دفيناً تعود جذوره لعصر الجاهلية والقبلية العربية الرافضة للإسلام والرسالة المحمدية الاصيلة، تجسدت في قضية سقيفة بني ساعدة فور رحيل خاتم المرسلين وصاحب رسالة المحبة والمودة للبشرية جمعاء محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الميامين وأصحابه المنتجبين .
من باب "ما لا يدرك كله لا يترك جله" ارتأيت كتابة هذه السطور للكشف عن بعض الجوانب النيرة والمشرقة والتأثير الكبير لسيرة ونهج نور الهداية هذا والذي لقب بـ"معجزة الامامة" الذي بلغته رسالة الامامة وهو لا يزال صبياً ليدلل كل الدلالة على أن الامامة كالنبوة مهمة إلهية تعطى لمن أهل لها ولا ريب في أن يكون الامام تسلم مهام الامامة في الصبى كما حدث في النبوة للنبي عيسى والنبي يحيى (عليهما السلام) ايضاً، كونها رسالة سماوية ومنصب إلهي والقرآن الكريم يقول: "وأتيناه الحكم صبيا" سورة مريم - الآية12.. وكذا علاقة الامام الجواد مع أصحابه وشيعته، وكيفية تعامله معهم، سيما ما يرتبط بتنظيم أمورهم، ومعالجته لمشاكلهم، وما يرتبط بالمهمات الموكلة إليهم الى جانب مقارعته وتصديه لظلم بني العباس على عهد سلطة "المأمون" و"المعتصم" الظالمة.
ظاهرة تولّي شخص لا يزيد عن سبع سنين للاِمامة أي زعامة الامة الاسلامية روحياً وفكرياً وعلمياً ودينياً ، ظاهرة ظهرت لاَول مرة في حياة الاَئمة على عهد الاِمام محمد الجواد (عليه السلام)، كما اشار الى اهميتها الفيلسوف الكبير الشهيد محمد باقر الصدر /قدس سرّه/ في 29 ذي القعدة سنة 1388 للهجرة - لم تنشر- وتوجد ضمن مستندات ووثائق موسوعة الشهيد الصدر حيث قال" أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقانية هذا الخط الذي كان يمثله الاِمام الجواد عليه السلام" .
فهو طريق عقلي آخر يضاف الى طرق إثبات الامامة وحصرها بأهل البيت عليهم السلام، ثم يفترض الشهيد الصدر عدة افتراضات يمكن أن تُثار حول إمامة الاِمام الجواد عليه السلام ويجيب عنها منطقياً وتاريخياً ، لكنه قدس سره يجيب قبل طرح الافتراضات فيقول :"إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الاِمامة الواقعية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويتولّى زعامة هذه الطائفة في كلِّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية " .
كل ذلك بقي خافياً على الامة الاسلامية حتى أن بعض مفكريها وعقلائها رووا عكس ذلك واستخفوا بهذه الشخصية الفذة وظلموها ولم ينقلوا عنها شيئا في وقت كان للامام الجواد (ع) دور ريادي في ادارة شؤون الأمة وأحكامها مما أربك سلاطين بني العباس وعملوا كل ما في جهدهم على إخماد هذا النور وتآمروا مراراً لسفك دمه الطاهر بمحاولات عدة لم تنجح، حتى تم دس السم اليه عبر زوجته "أم الفضل" بنت عم الخليفة العباسي "المعتصم" بمؤامرة دبرها الأخير خوفاً من نفوذ الامام الجواد الواسع بين المسلمين في وقت كان الامام صلوات الله عليه في عنفوان الشباب ولم يتعد عمره الشريف الخمس وعشرين سنة، وشهرين، وثمانية عشر يوماً.
الامامة هي المصدر الصافي والأصيل، والرصيد الالهي الكافي للعلوم والمعارف اللازمة لتغذية حركة الحياة والفكر لدى المجتمع الاسلامي والبشري برمته، وتزويده بما لابد له منه في مسيرته التكاملية الرائدة، نحو هدفه المنشود.. وهي الامتداد الحي لمسيرة النبوة، في قيادتها الالهية للأمة نحو هدفها الأسمى؛ كما انها المعين الذي لا ينضب للفكر الاسلامي الأصيل، الذي لابد وأن يمد الأمة بالرأي، وبالحياة، والذي يستمد بعذوبته وصفائه من القرآن الكريم مباشرة، وكذلك من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).. ومن الطبيعي أن تكون الامامة بحاجة للاعلان ممن له الحق، بقبول هذا الامتداد، وبتفويض تلك المهام القيادية لمن ترى فيهم كامل الجدارة والأهلية لتحمل مسؤولياتها الجسام.
ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاد الامام محمد الجواد الأليمة والفاجعة، لابد لنا من تسليط الأضواء والكشف على كل ذلك، وفهم هذه الشخصية بشمولية وعمق أكبر، يتناسب مع حجم الدور الذي أخذ الامام (عليه السلام) على عاتقه القيام به، في فترة متميزة، تعتبر من أهم الفترات، التي عاشها الأئمة (عليهم السلام)، سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً. حيث تلك السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد والده الاِمام الرضا (عليه السلام) على يد "المأمون" العباسي والتي كانت مشحونة بالحذر والترقب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشمي خصوصاً؛ للسياسة التي اتخذها "المأمون" ودوافعه الخبيثة في تقريب الاِمام الجواد (ع) وإنزاله تلك المنزلة منه.
هذا الترقب والحذر راجع لعدة أمور لعلّ من أهمها ما يوجزه المؤرخون بأنه يصب في دهاء ومكر "المأمون" العباسي وحقده الدفين لآهل البيت العلوي، حيث أن "المأمون" ولاَجل رفع أصابع الاتّهام عنه باغتيال الاِمام الرضا (ع)، أراد أن يثبت ظاهرياً للعوام والخواص حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال بقائه على ولاء وحب البيت العلوي؛ لذلك أظهر اهتماماً زائداً، وتكريماً متميزاً للاِمام محمد الجواد فأقدم على تزويجه إياه من ابنته زينب المكناة بـ"أم الفضل" عنوة وتحت جبر السيف، واسكانه قصور السلطنة؛ فيما أمر ولاة الاَقاليم والخطباء بإظهار فضائل الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر في جميع المناسبات.
لكن التاريخ يحدثنا عن تدبر الامام الجواد (عليه السّلام) ضد هذه المؤامرة العباسية الخبيثة حيث انصرف الامام (ع) الى مدينة جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد زواجه بـ"أمّ الفضل" فأحبط بذلك مكرَ "المأمون" وفوّت عليه تدبيره في محاولة احتوائه وفَصْلِه عن شيعته وجماهير مُحبّيه (كما ذكره المسعودي)، وأنّه بقي في المدينة يتعاهد أمورَ شيعته حتى استدعاه "المعتصم العبّاسيّ" ـ خَلَف المأمون ـ في أوّلِ سنةِ 220 هـ، فأقام في بغداد حتّى استُشهِد في آخر ذي القعدة من تلك السنة، كما ذكرنا سلفاً.
سعى الامام الجواد طيلة حياته القصيرة الزاهرة في حفظ وتقوية ارتباطه بالأمة جمعاء خاصة شيعته عن طريق نصب الوكلاء وإرسال الموفَدين، وأنّه أمر أولئك الوكلاء والموفدين بالعمل بما من شأنه تقوية وحدة المسلمين والاحتراز من التفرقة.. ونجد أنّ الإمام الجواد (ع) قد بعث وكلاء حتى الى المناطق البعيدة مثل الأهواز، وهَمَدان، وسِيستان، وبُسْت، والريّ، والبصرة، وواسط، وبغداد، والكوفة، وقمّ.
وقد أجاز الامام الجواد (ع) لبعض شيعته النفوذَ في مراكز الحكومة وتسنُّمَ المناصب المهمّة، من أجل نصرة المستضعفين من الأمة وحماية إخوانهم الشيعة، فصرنا نجد أفراداً من أمثال "محمّد بن إسماعيل بن بُزَيع" و"أحمد بن حمزة القمّي" يحتلّون مناصب رفيعة في الدولة، وصرنا نجد أنّ "نوح بن درّاج" يصبح قاضيَ بغداد ثمّ قاضي الكوفة (كما رواه ابن ابي الحديد المعتزلي نقلاً عن كبير الطالبيين).
ساهم الامام الجواد خلال مدة امامته التي لم تدم أكثر من سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وحفظ تراثها، وقد عُدّ الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) من تلامذة الامام (عليه السلام) ورواته والذين تتلمذوا عليه نحو مائة من الثقات، منهم إمرأتان، صنفوا في مختلف العلوم والمعارف الاسلامية وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعضاً من اصحابه (عليه السلام)، الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم:
الف ـ أحمد بن محمد بن خالد البرقي: صنف كتباً كثيرة بلغت أكثر من تسعين كتاباً.
ب ـ علي بن مهزيار الأهوازي: له اكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً.
ج ـ صفوان بن يحيى: له كتب كثيرة، وله مسائل عن الكاظم (عليه السلام).
د ـ أحمد بن محمد بن أبي نصر: كان عظيم المنزلة، له كتاب الجامع، وكتاب النوادر.
https://telegram.me/buratha