حوارات في اللاهوت المسيحي 46
تعتبر قصة عودة يسوع المسيح الى الحياة , بعد موته على الصليب, من مرتكزات الإيمان المسيحي وأحد أهم محاوره الاساسية , فهي الحدث الاضخم في تاريخ البشرية , والبرهان الأعظم على صدق الإيمان ,كما يعتقد المسيحيون.
ونظرا لان هذه القصة يتم تسويقها كحقيقة تاريخية , وليس فقط كاعتقاد يخص مجموعة المؤمنين به, لذلك من الضروري جدا بحث وتتبع كل تفاصيل هذه القصة , وتسليط الضوء عليها من جميع الاتجاهات لغرض التوصل الى صورة واضحة قد تكشف للباحث حقيقة الأمر وأصل الحكاية .
وقد كنا تطرقنا سابقا في اكثر من مقال الى موضوع (قيامة المسيح) و تناولنا تلك القصة من أكثر من جانب ,وخصوصا ما يتعلق بالجوانب التاريخية منها, وكذلك الأبعاد والظروف التي لعبت دورا في التأصيل الثيولوجي لتلك القصة.
في هذا المقال سنحاول البحث من أجل معرفة المصدر الأول للحكاية , ومعرفة الظروف والدوافع التي كانت سببا في اختلاق هذه الازعومة وترديدها , حتى بدأ عدد المصدقين بها يتزايد , وأصبحت قصة يتم تكرارها وتطوير أحداثها تدريجيا مع مرور الزمن , حيث أخذت تتضخم و تترسخ مع كثرة تناقلها شفويا من مجموعة لاخرى ومن منطقة الى منطقة أبعد,ومن جيل لآخر
حيث انه من الواضح ان حكاية قيام يسوع الناصري من الموت , بعد صلبه, بدأت بوقت مبكر جدا , وأخذت بالانتشار, بين أتباعه ومحبيه, بعد فترة وجيزة من صلبه.
ان الاعتقاد بقيام ( البطل) من الموت وصعوده الى السماء , وبالتالي تحوله الى كائن (سماوي / إلهي) لم يكن اختراعا مسيحيا, وإنما كان جزء من منظومة العقائد السائدة في ذلك الزمن ,ضمن الميثولوجيا الاغريقية والرومانية , كما هو الحال في أسطورة صعود ( رومولوس) او ( يوليوس قيصر) الى السماء بعد الموت, وكذلك الامر مع شخصيات اسطورية اخرى عديدة.
وبالعودة الى قصة قيامة يسوع المسيح من الموت, ونظرا لعدم وجود ذكر لهذه القصة في اي مصدر تاريخي معاصر , لذلك كان لزاما على الباحث فحص وتدقيق أصل وتفاصيل تطور سرديات تلك القصة ضمن نصوص العهد الجديد, والتي هي بالأساس نصوص دينية تعرض ما يعتقده كتابها وليس نصوص توثيق تاريخي محايد.
عند قراءة كتاب العهد الجديد بشكله الحالي المتوفر في كل مكان, يجد القارئ لهذا الكتاب, قصة قيامة المسيح في الانجيل الاول بالكتاب وهو إنجيل ( متى) وبعده تظهر القصة ايضا في انجيل (مرقص ولوقا وصولا الى انجيل يوحنا), ومن ثم يجد ايضا ذكر للقصة في بقية أجزاء العهد الجديد من أسفار ورسائل
هذا بالنسبة للقارئ العادي, اما بالنسبة للباحث , فمن الضروري جدا ان يبدأ في تتبع القصة بحسب التسلسل الزمني لتاريخ كتابة النصوص التي ذكرتها , مبتدئا بالنص الأقدم ثم الذي يليه زمنيا ….وهكذا …
وهذا الطريقة لابد منها لاجل التوصل الى معرفة اصل الحكاية , وظروف نشأتها , والامر الاهم هو معرفة التطورات التي تدخل على الحكاية الأصلية لتنتج لنا في نهاية الأمر قصة أكثر حبكة ومتانة من الناحية الدرامية , وكذلك أكثر موائمة مع التطورات العقدية التي شهدتها مسيرة الإيمان المسيحي في مراحله المبكرة.
وقد سبق وقدمنا إلى أن حكاية قيامة يسوع الناصري بدأت من خلال النقل الشفوي وأخذت تنتشر بين أتباعه ومريديه على شكل قصة تتناقلها الألسن من شخص لاخر, واخذت بالتضخم والتطور حتى أصبحت لاحقا أحد اهم العوامل في جذب اشخاص جدد الى الإيمان الناشئ.
ومن هنا تبرز لنا أهمية أقدم النصوص المكتوبة زمنيا , والتي ذكرت قصة القيامة, حيث أننا نستطيع من خلالها تلمس الملامح الرئيسية للبذرة الاولى لتلك الازعومة قبل ان تطرأ عليها الاضافات والتحديثات لاحقا في النصوص الاخرى والتي تم كتابتها في ازمنة متأخرة عن زمن النص الأول الذي تطرق للحكاية.
يعتبر النص الوارد في رسالة بولس الأولى الى أهل كورنثوس في الإصحاح الخامس عشر من تلك الرسالة هو أقدم ما وصل إلينا من نصوص حول قيامة المسيح , حيث يعتقد ان هذه الرسالة قد تمت كتابتها بعد حوالي عشرين عاما من صلب المسيح.
في هذه الرسالة التي كان(بولس) قد وجهها الى اتباعه في مدينة ( كورنثيوس) وهي مدينة من مدن الإمبراطورية الرومانية في ذلك الزمن وتقع في اليونان الحالية , في الإصحاح الخامس عشر من تلك الرسالة ,وبعد تشديد ( بولس) على اهمية ومحورية الاعتقاد بقيامة المسيح من الموت , نجده يعاود التأكيد على حدوث تلك الواقعة من خلال إعادة سرد تسلسل حوادث ظهور المسيح , حيث يقول :
(وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر،وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة اخ أكثرهم باق الى الان ولكن بعضهم قد رقدوا، وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين،وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي انا).
في هذا النص المهم جدا , نكتشف عدة أمور على درجة عالية من الخطورة والاهمية التاريخية !
من تلك الامور , اننا نجد (بولس) يتحدث عن ( ظهور) للمسيح !!....الذي (ظهر) لصفا ( بطرس) ثم ظهر للاثني عشر !!!.....واخيرا ( ظهر) لبولس نفسه
ومن الواضح بشكل جلي ان بولس قد اعتبر ( التجربة البصرية) التي مر بها و تخيل فيها ان المسيح ظهر له وكلمه , هي بمثابة عودة المسيح للحياة من الموت !!!!..... وان الاخرين الذين آمنوا بقيامة يسوع كان الدافع الرئيسي في إيمانهم هو نفس دافع بولس و الا وهو ( ظهور) يسوع لهم !!!!
وقد تم تفسير ذلك ( الظهور) من قبل بولس والاخرين على انه قيامة من الموت !!
ومن الأمور المهمة الاخرى في النص المتقدم , هو غياب اي ذكر لقصة ( القبر الفارغ) وكذلك لقصة ظهور المسيح للنسوة اللواتي هرعن الى القبر في الصباح الباكر ليوم الأحد الذي تلى الصلب حسب ما ستقوم الاناجيل ( لاحقا ) باضافة تلك القصص بعد عشرات السنين من زمن تدوين هذا النص الذي نبحثه!
ان عدم ذكر بولس لازعومة القبر الفارغ, ولا لقصة النسوة ومشاهدتهن للميت القائم , يدل بشكل لا يقبل اللبس, ان تلك القصص لم تكن معروفة أصلا في زمن تدوين بولس لرسالته ( حوالي بحدود عام 50 ميلادي) وانما تم اختراع تلك الحكايات لاحقا , واضيفت للقصة الرئيسية فيما بعد عندما تم تدوين الأناجيل
و مما يؤكد هذا الاستنتاج , ان شخصا ذكيا مثل بولس وهو في معرض تأكيد وتوثيق قصة اعجازية فريدة لم يكن ليغفل عن ذكر براهين وأدلة تؤكد مصداقية الحادث , ومما يؤكد هذا الاستنتاج ايضا, هو ان نفس الحكاوى المخترعة لاحقا, تعاني من التباين والاضطراب, عند مقارنتها في الأناجيل التي تطرقت اليها , وهذا أمر معروف ومسلم به لدى كل الباحثين , ولا داعي لاعادة سرده وتبيانه هنا مراعاة للاختصار.
وبالعودة الى النص المتقدم ,مدار بحثنا, نجد بولس يستعرض ظهورات المسيح ( التي اعتقد انها قيام من الموت) يستعرضها بتسلسل زمني
فيسوع قد ظهر أولا لصفا ( المقصود هنا بطرس تلميذ المسيح) ثم للتلاميذ ….ثم تستمر الظهورات حتى يكون آخرها ظهوره لبولس نفسه!
والذي يهمنا كثيرا هنا, هو أنه وبحسب بولس, فإن أول شخص ظهر له المسيح بعد موته هو التلميذ (بطرس) وليس كما ادعت الأناجيل المكتوبة لاحقا بان المسيح ظهر اولا لمريم المجدلية وبقية النسوة !
وبما ان بولس وقت صلب المسيح لم يكن قد تحول بعد الى الإيمان به , وإنما حدث ذلك بعد عدة سنوات
فبالتأكيد هو لم يكن شاهدا على ظهور المسيح لبطرس, وإنما نقل ذلك بناءا على ادعاء من بطرس نفسه والذي التقى به بولس لاحقا
ومن تتبع سيرة التلميذ بطرس واقواله يكتشف الباحث ان هذا الرجل كان من أشد المتحمسين لفكرة ان معلمه يسوع الناصري الذي صلبه الرومان, قد عاد الى الحياة مرة اخرى, وانه قام باعطائه تعاليم وتوصيات مع الأمل بعودته القريبة جدا لينشأ مملكة الرب !
ومن خلال مقارنة كل ذلك , مع كلام بولس حول تسلسل أحداث قيامة المسيح في رسالته المتقدم ذكرها, يظهر لنا بشكل لاغبار عليه ان اول شخص ادعى عودة يسوع الناصري الى الحياة بعد صلبه هو التلميذ (بطرس) والذي ادعى ايضا ان معلمه العائد من الموت التقى به وكلمه واعاد سقي بذرة الامل في نفوس تلاميذه واتباعه الذين صدمتهم النهاية السريعة و المأساوية لمعلمهم والملك الموعود للمملكة الحلم !
بعد كل ما تقدم … تبرز لنا تساؤلات مهمة جدا, من بينها, ما الذي دفع بطرس للاعتقاد بهذه الفكرة ونشرها بكل حماس بين أتباع المسيح؟
و ما هي الأسباب التي جعلت حكاية القبر الفارغ ولقاء النسوة بالمسيح تظهر في سرديات الأناجيل التي تمت كتابتها لاحقا بعد عشرات السنين من زمن كتابة رسالة بولس الى أهل كورنثيوس؟
هذه الاسئلة وغيرها ,سنحاول التطرق اليها والبحث عن إجابات لها في المقال القادم, من اجل التوصل الى صورة اكثر وضوحا حول اصل اسطورة القيامة للحصول على فهم اعمق واكثر دقة لمجريات تلك الحقبة التاريخية وأحداثها التي لازالت تشكل جزء كبير من حيز الوعي في المجتمع الإنساني .
وللحديث صلة..
د. الحكيم
يوتيوب:
https://www.youtube.com/channel/UCF09ULdM4kXt9AiGe8FuWAQ
https://telegram.me/buratha