السيد علي الأكبر الحائري ||
· شمولية الأحكام الإلهية (دراسة نقدية لفكرة تغيّر الأحكام الشرعية وفقاً للظروف الاجتماعية)
الخطوة السادسة
· إبتداع الحكم خارج نطاق العنوان الكلي
عرفنا في الخطوات السابقة أنّ الحكم الشرعي يدور دائماً مدار صدق العنوان الكلي الذي عيّنه الشارع تبارك وتعالى في متعلّقه أو موضوعه، ولا مانع من تغيّر وسائل تحقيق العنوان الكلي، كما لا مانع من تغيّر مصداق العنوان الكلي مع صدق ذات العنوان، كما لا مانع أيضاً من صيرورة الشيء مصداقاً لعنوان كلي آخر مما عيّنه الشارع تبارك وتعالى، فيترتب عليه حكم ذلك العنوان الجديد.
وفي هذه الخطوة (السادسة) نريد أن نؤكّد على أنّ الظروف والملابسات الجديدة في العصر الحديث إن كانت تستدعي ابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عيّنه الشارع تبارك وتعالى فلا يجوز اتباعها، بل لابد من اتّباع تلك العناوين الكلية التي عيّنها الشارع سلباً وإيجاباً كما نبهنا عليه سابقاً، مع السعي نحو إصلاح تلك الظروف والملابسات لكونها فاسدة ومنافية للإسلام.
والظاهر أنّ تسعين بالمائة من أحكام المرأة التي قال عنها السيّد الحيدري: إنّها لا تناسب العصر الحديث، هي في الحقيقة من هذا القبيل، بمعنى أنّ ما تستدعيه الظروف والملابسات الجارية في العصر الحديث يستلزم ابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عينه الشارع تبارك وتعالى، لا مجرّد التغيير في المقدمات والوسائل، ولا مجرّد التغيير في مصاديق العنوان الكلي، ولا مجرّد اتّصاف الشيء بصفة تجعله مصداقاً لعنوان كلّي آخر عينه الشارع تبارك وتعالى.
فمثلاً كيف يمكن تبرير الحجاب الذي لا يستر تمام بدن المرأة عدى الوجه والكفين إلّا بابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عينه الشارع تبارك وتعالى، أعني عنوان (ستر تمام البدن عدى الوجه والكفين).
وكيف يمكن تبرير تساوي الذكر والاُنثى في الإرث إلّا بابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عينه الشارع تبارك وتعالى أعني عنوان (للذكر مثل حظ الاُنثيين).
وكيف يمكن تبرير تساوي المرأة والرجل في الشهادة إلّا بابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عيّنه الشارع تبارك وتعالى، أعني ما يستفاد من قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء).
إلى غير ذلك من أحكام المرأة التي أشار إليها السيّد الحيدري.
ولأجل توضيح أكثر لما ذكرناه أقول: إنّ السير نحو مقتضى الظروف والملابسات الجارية في العصر الحديث في هذه الأحكام ينحصر أمره بثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: عبارة عن رفع اليد عن العناوين الكلية المأخوذة في تلك الأحكام مع الاعتراف بأنّها العناوين التي عيّنها الشارع تبارك وتعالى وهذا ابتداع لأحكام جديدة خارج إطار العناوين الكلية التي عيّنها الشارع تبارك وتعالى .
والوجه الثاني عبارة عن عدم الاعتراف بأنّها العناوين الكلية التي عينها الشارع تبارك وتعالى، ودعوى أن العنوان المأخوذ في كل حكم من تلك الأحكام عنوان آخر يناسب الحكم الذي يتطلّبه العصر الحديث. وهذا ينافي مقتضى ما يستفاد من الأدلّة الشرعية الواصلة إلينا بصورة واضحة.
والوجه الثالث: عبارة عن دعوى كون هذا العنوان الكلي خاصّاً بالزمان القديم والظروف القديمة وليس جارياً إلّا للظروف المشابهة لذاك الزمان كما هو ظاهر كلام السيد الحيدري ـ في مقطع الفيديو الذي انتشر عنه باللغة الفارسيّة ـ وهذا ينافي إطلاق الأدلّة الشرعية وموازين استنباط الأحكام من أدلّتها، وليس في موازين استنباط الأحكام الشرعية ما يبرّر ذلك، كما نبّهنا عليه في الخطوات السابقة.
وبعد فشل هذه الوجوه الثلاثة في إمكان الأخذ بمقتضى الثقافة العصريّة والظروف والملابسات الجديدة، سينكشف لنا بوضوح أنّ هذه الثقافة العصريّة فاسدة، وما تقتضيه الظروف والملابسات الجديدة منافٍ للإسلام، وبالتالي ينبغي السعي نحو تبديل هذه الثقافة وإصلاح هذه الظروف، بدلاً عن السعي نحو تبديل تلك الأحكام.
· طريقة تشخيص العنوان الكلي المأخوذ في الحكم الشرعي
الخطوة السابعة:
كيف نعرف أنّ ما تقتضيه الظروف والملابسات الحديثة في كل مسألة من المسائل هل هو ابتداع لحكم جديد خارج إطار العناوين الكلية التي عينها الشارع تبارك وتعالى حتى لا يحق لنا اتباع ما تمليه علينا تلك الظروف والملابسات، أو هو عبارة عن مجرّد (تبديل المقدّمات والوسائل اللازمة لتحقيق ذلك العنوان الكلي) أو مجرّد (تغيير في مصاديق ذلك العنوان الكلي مع بقاء صدق العنوان الكلي على المصاديق الجديدة) أو مجرّد (كون الشيء الذي تستدعيه الظروف الجديدة قد تحول ببركة تلك الظروف إلى المصداقية لعنوان كلّي من العناوين التي عينها الشارع تبارك وتعالى لأحكامه) حتى يحق لنا العمل بمقتضى تلك الظروف والملابسات الحديثة؟.
والجواب: أنّ معرفة ذلك تتمّ من خلال مراجعة الأدلّة الشرعيّة لذلك الحكم، فنرجع مثلاً إلى دليل حكم الإرث في الذكر والاُنثى لنجد أنّ العنوان الكلي المأخوذ في ذلك الحكم عبارة عن قول الله تبارك وتعالى (للذكر مثل حظ الاُنثيين) وليس عبارة عن عنوان (ما يتقوّم به اقتصاد الاُسرة بحسب الظروف) مثلاً وهكذا في الموضوعات الكليّة المأخوذة في المسائل الاُخرى، وهي واضحة غالباً بحسب موازين وضوابط استنباط الحكم الشرعي، كما في أكثر الأحكام الشرعية الراجعة إلى المرأة.
وقد لا تكون الأدلّة الشرعية لحكم مسألة من المسائل واضحةً بالدرجة التي يتّفق عليها الفقهاء، كما في مسألة (الشطرنج) إذ قد لا يكن من الواضح جدّاً أنّ العنوان الكلي المأخوذ في حكم الحرمة هل هو عبارة عن (الشطرنج المعدّ للمراهنة والقمار) أو هو عبارة عن مطلق (الشطرنج) وإن كان معدّاً لمجرّد الرياضة الفكريّة، وقد يختلف الفقهاء في نتائج استنباطهم للحكم الشرعي في تلك المسألة.
ففي مثل ذلك سيكون حال تلك المسألة كحال كلّ المسائل الخلافية بين الفقهاء ـ مثل (وجوب ثلاث سبحانيات في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة، أو وجوب سبحانية واحدة) ومثل (وجوب الخمس في الهبة أو عدم وجوب الخمس فيها) إلى غير ذلك ـ التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء لأسباب علميّة معروفة ، فلا يجوز للناس اتّخاذ رأي معيّن في ذلك جزافاً واعتباطاً، بل لابد لهم الرجوع إلى من يرجعون إليه في التقليد لتعيين العنوان الكلي المأخوذ في حكم تلك المسألة بحسب الموازين المعهودة لاستنباط الأحكام في علمي الفقه والاُصول.
وهذا هو السرّ في اختلاف رأي الفقهاء في حكم الشطرنج في الظروف الحديثة التي لا يكون فيها معدّاً للقمار بل للرياضة الفكريّة فحسب.
https://telegram.me/buratha