أقام المركز الحسيني للدراسات في العاصمة البريطانية لندن، ندوة ثقافية بعنوان (ملتقى تجليات البصيرة في تنوير القيم الإنسانية) والذي حضره شخصيات علمية وعلمائية وجامعية وأدباء ومثقفون وعشرات المستبصرين من العراق ولبنان وغانا والصومال واليمن وإيران وفرنسا وكينيا وبريطانيا وفلسطين وتنزانيا والهند وباكستان والمغرب وتركيا والسودان والجزائر، وغيرها.
افتتحت الندوة بقراءة آيات من الذكر الحكيم تلاها كلمة للمستبصر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين، وكلمة قصيرة لمدير الملتقى المستبصر العراقي الأستاذ عمر آلاي بيك، الذي اعتبر أن “ملتقى المستبصرين الذي ينعقد تحت مظلة المركز الحسيني للدراسات الذي تصدر عنه أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي بلغ المطبوع منها مائة جزء، يأتي في إطار سعي المركز لفتح المجال أمام أصحاب الاختصاصات المخلتفة من أجل إثراء الساحة فكريًا وثقافيًا”، مضيفًا أن “مسألة الاستبصار هي من المسائل المهمة التي ينبغي معرفة أسبابها ودواعيها وما إذا كان الاستبصار ذاتي أم خارجي”، مؤكداً بأنّ “الملتقى ليس له أهداف سياسية ولا هو موجه ضد أحد، بل هو منجز ثقافي وحضاري ينطلق من قاعدة احترام الآخرين وعدم التعرض لرموز الآخرين بما يعود بالضرر على الذات والآخر عملاً بسيرة النبي (ص) وآله (ع) كما قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): (كونوا لنا دعاة صامتين)، وقوله عليه السلام: (كونوا لنا زينًا ولا تكونوا علينا شينًا)، أي الاقتداء عبر العمل الصالح لخير الإنسان والأمة والبشرية”.
وعبّر سماحة الشيخ محمد صادق الكرباسي راعي الملتقى ومؤلف دائرة المعارف الحسينية عن “قناعته التامة بأن الاستبصار والاهتداء بسنة النبي محمد (ص) وأهل بيته الكرام (ع) هي نعمة كبيرة لابد من الشكر عليها، وأن عدم الشكر على الاستبصار يقابله كفران النعمة”، مضيفًا أن “الاستبصار انطلاقة نحو الانفتاح وتوسيع الآفاق، وهو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ما دام العبد يريد الوصول إلى منبع الحقيقة”.
وأضاف أن “الاستبصار لا يعني معاداة الآخرين، ومن الخطأ أن يأخذ المستبصر جانب العداء من الآخر، بل يدعوه استبصاره إلى التعامل مع الجميع بروحية عالية وهذه سنة النبي (ص) وأهل بيته الكرام (ع)، فالمستبصر الحقيقي هو الذي يتبع سيرة النبي محمد (ص) وأئمة أهل البيت (ع) ولا يفصل بينهما، فهما كتلة واحدة ومنبع واحد وسنة واحدة”.
وفي ختام مداخلته أوضح المحقق الكرباسي أن “الاستبصار لا يعني المحبة المجردة عن العمل والولاء، فالاستبصار يستوجب العمل بسنة النبي محمد وآله، وهي سنة الوسطية والتعامل مع الآخر كأخ في الدين أو نظير في الخلق”، منوّهًا إلى أن “الإسلام نشأ في قريش ثم انتشر إلى العرب والعجم الذين كانوا على ديانات ومعتقدات ونحل متنوعة، وبذلك فإن الاستبصار ليس حالة جديدة أو طارئة فكل المسلمين وعلى مدى التاريخ وتعدد الأصقاع هم مستبصرون بالإسلام”.
والتأم الملتقى في محورين، تحدث في الأول وتحت عنوان أسباب الاستبصار ودواعيه، المستشارة القانونية السيدة أم كلثوم الشريف علي باعلوي اليمنية الأصل، تطرقت إلى تجربتها الشخصية وتحولها من الشافعية إلى الوهابية ثم الإمامية، حيث جاء التحول بعد سنوات من انتقالها للسكن في المملكة المتحدة واحتكاكها بحكم عملها كمستشارة قانونية وناشطة اجتماعية بالكثير من الأسر المسلمة من مذاهب مختلفة، معتبرة أن تحولها جاء عن قراءة واعية للمذاهب وتاريخها، وهذا التحول لا ينافي احترام المذاهب الأخرى واحترام رموزها وأتباعها، بل هي سنة النبي (ص) وآله (ع) في التعاطي مع الجميع بصدر وسيع.
وانتهت المستشارة القانونية أم كلثوم باعلوي إلى التأكيد بأن المسلمين مهما عملوا وصرفوا لا يمكنهم أن يؤدوا جزءاً من نعمة الهداية وما بذله النبي محمد (ص) وأهل بيته (ع) من تبليغ الرسالة وهداية الناس إلى سواء السبيل، ولو قدمنا ملء الأرض ذهبًا ما وفينا حقهم وهدايتهم لنا وللبشرية.
وحول المحور الثاني من الملتقى يجيب المستبصر السوداني المستشار القانوني السيد عبد المنعم محمد حسن الشيخ على استفسار ما إذا كان الاستبصار بهدى محمد (ص) وآله الكرام (ص) ذاتي الدواعي والأسباب أم خارجيًا، فمن رأيه أن الاستبصار ذاتي الحركة قد يتأثر بأمر أو حدث خارجي يدعو المرء إلى القراءة الواعية من جديد لما يتعبد من فقه إسلامي، وفق دعوة القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) سورة الزمر: 17 و18، معتبرًا أنّ الاستبصار ظاهرة طبيعية في حياة الأمم وحركتها تدفع بالناس إلى ما يحييهم، وهي دعوة مفتوحة، اختلفت من دين إلى دين، ورسالة الإسلام جاءت مكملة وينبغي أن يكون فيها الحل لكل الأدواء والأمراض الاجتماعية وغيرها، فهي حركة مرتبطة بالإنسان وبحثه عن الخلاص، وهذه المحورية هي الأساس في حركة الاستبصار.
وأكد المستشار عبد المنعم الشيخ أن الاستبصار قوة ومناعة وقناعة ذاتية، داعيًا في الوقت نفسه الانفتاح على الآخر، مشيراً أنه ليس هناك خارطة طريق للاستبصار بعينها، وإنما هي منوطة بالشخص نفسه، فبعضهم تأثر بحوادث تاريخية مثل واقعة استشهاد الإمام الحسين(ع)، وبعضهم بحوادث معاصرة مثل التحولات في إيران ولبنان والعراق، محذراً في الوقت نفسه من المؤامرات لإشعال الفتن المذهبية طالباً الإعتبار مما حدث في نيجيريا في مدينة زاريا في 13/12/2015م من قتل بشع على الهوية المذهبية من دون وجه حق.
من جانبه وافق المستبصر التنزاني العلامة الشيخ أيوب راشد أبو حيدر في كلمته عدداً من المتحدثين بأن الاستبصار من أهم النعم التي أولاها الله لعباده، ولا يمكن عدها كما قال تعالى في محكم كتابه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النحل: 18، معتبراً أن عنوان الملتقى جاء ليوضح حقيقة الإيمان وحقيقة الإستبصار فالمعرفة العميقة للإسلام تتأتى من تجليات البصيرة التي تعني معرفة الشيء والعمل على ضوئه، واتباع سنة النبي محمد (ص) وأهل بيته (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس هو قمة البصيرة والعمل بمؤداها.
وكان للأدب العربي حضوره في الملتقى حيث ألقى الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين قصيدة عصماء من 64 بيتاً من الرجز بعنوان (إذا الفؤاد استبصر)، جاء في مطلعها:
دهراً مشيتُ راجياً فَلَمْ أرَ … حتى انتظرتُ حيدرًا كيْ أُبصرا!
قالّ لي الأعمى: بأيِّ شارقٍ … بصُرْتَ قلتُ: بالَّذي فوق الذُّرى
ويعبر الشاعر الجزائري شبين عما في داخله فينشد:
بِمَدْرَسِ العترةِ تلميذٌ أنا … منهم أساطيرَ حَبَرْتُ للورى
ويعرج الشاعر على الإمام الحسين(ع) ودائرة المعارف الحسينية التي ينشط فيها منذ سنين، فينشد:
موسوعةُ السبطِ أرى بأُفقها … وحياً سماويَّ الغُيوبِ مُقمرا
ثم يعرج على الجد(ص) والوالد(ع)، فيُنشد:
يصفَعُني اللَّاتُ بليلِ أمَّةٍ … ناديتُ فيها أحمدًا وحيدَرا
ويختم القصيدة الولائية بقوله:
يُخصبُ نورُ الوحيِ في جوارحي … مُوَرِّقاً إذا الفؤادُ استَبصرا
وفي إطار الأدب تلا الفتى التنزاني الأصل حيدر الشيخ أيوب أرشد أبو حيدر موشحات نبوية من الشعر العربي القريض شدّ الحاضرين بصوته الجميل.
وتداخل في الملتقى عدد من المستبصرين من جنسيات مختلفة، منهم الأستاذ محمد ملك من فرنسا حيث وجد أن قراءته المتكررة للتاريخ وحوادثه ومتابعة ما كتب في الصحاح الستة وفي غيرها أن اتباع سنة النبي محمد(ص) وأهل بيته(ع) هو الذي حث عليه القرآن الكريم في اكثر من مورد. فيما وجد الأستاذ محمد محمود علي، من الصومال، أن آية التطهير (إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) سورة الأحزاب: 33، أحد مداخل الاستبصار واتباع مدرسة أهل البيت(ع)، فيما تساءل الأستاذ حسين الكيني بحرقة وألم: لماذا التحول من الشافعية إلى الحنفية لا تعد مشكلة، ولكن التحول الى مذهب أهل البيت(ع) يتبعه أذى ويتعرض صاحبه لمضايقات نفسية واعتداءات جسدية تطال الروح والأموال والأعراض؟ داعياً الجميع إلى الانصاف واحترام العقل وعدم الإعتداء على حريات الآخرين الفكرية والاعتقادية والفكرية.
فيما اعتبرت المستبصرة السيدة خديجة أيوب كوانساه وهي من غانا التي تحولت من المسيحية إلى الإسلام، أن تحولها جاء عن قناعة، ولكني اصطدمت بحقائق جديدة لم أكن أعرفها عن المذاهب الإسلامية وتكفير البعض للبعض الآخر، وهو ما قادني إلى قراءة متمعنة للإسلام ومذاهبه وهداني صحيح مسلم إلى أن النبي محمد(ص) كالأنبياء السابقين ترك وصياً عليّ طاعته بوصفه هادياً كما كان عليّ في البدء طاعة النبي محمد(ص) بوصفه منذراً.
فيما رأت السيدة فائزة أبوبكر يوسف وهي مستبصرة من الصومال أن الاعتداءات المتكررة على مساجد الشيعة الإمامية وحسينياتهم في العراق وغيرها من البلدان وارتفاع وتيرتها مع قدوم شهر محرم ذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) أثارت فيَّ غريزة قراءة التاريخ ومعرفة الحقيقة والوقوف عليها والعمل بها.
ويعتبر ملتقى “تجليات البصيرة في تنوير القيم الإنسانية” باكورة الموسم الثقافي الجديد للمركز الحسيني للدراسات بلندن الذي أقام الكثير من الملتقيات والندوات والمؤتمرات في داخل المملكة المتحدة وخارجها مثل السنغال والعراق وباكستان والكويت وسوريا وإيران وغيرها.