* جميل ظاهري
عاش الامام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام مدة إمامته بعد أبيه في فترة أتسمت بالقوّة والعنفوان حيث صعود الدولة العباسية وانطلاقتها. واستلم شؤون الامامة في ظروف صعبة وقاسية، نتيجة الممارسات الجائرة للسلطة العباسية وعلى رأسها المنصور حيث جسّد دور الامامة بأجمل صورها ومعانيها.
وعاصر الامام الكاظم (ع) أربعة من خلفاء العباسيين "المنصور" و"المهدي" و"الهادي" و"هارون الرشيد"، حيث اتسم حكم "المنصور العباسي" بالشدّة والقتل والتشريد وامتلأت سجونه بالعلويين حيث صادر أموالهم وبالغ في تعذيبهم وتشريدهم وقضى بقسوة بالغة على معظم الحركات المعارضة؛ فيما سلطة ولده "المهدي العباسي" شهدت تخفيفاً في وطأة الضغط والرقابة على آل البيت (ع) مما سمح للامام الكاظم (ع) أن يقوم بنشاط علمي واسع في المدينة حتى شاع ذكره في أوساط الأمة.
وفي خلافة "الهادي العباسي" الذي اشتهر بشراسته وتضييقه على أهل البيت (ع) وقد توعد الامام (ع) وهدده مراراً لكن وبحمد الله سبحانه وتعالى لم تسنح الفرصة له لذلك إذ مات بعد وقت قصير، فانتقلت السلطة الى "هارون الرشيد" الذي فاق أقرانه في ممارسة الضغط والارهاب على العلويين.
واتسم عصر الامام موسى بن جعفر (ع) بموجات رهيبة من الاتجاهات العقائدية المنحرفة التي لا تمت إلى الاسلام بصلة، كما تميز بالنزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية، الاسلام بريء منها كل البراءة. حيث تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعاً بعيد المدى أحدث هزات اجتماعية خطيرة. لكن رغم ذلك فقد ذاع صيت الامام (ع) بين الناس وهم يتناقلون فضائله وعلمه الغزير، ومواهبه العالية؛ وذهب جمهور غفير من المسلمين للاعتقاد بامامته وأنه أحق بالخلافة من أي شخص آخر في عصره.
وذهب كبار المسؤولين في دولة "هارون" الى فكرة امامته مثل: علي بن يقطين، وابن الأشعث، وهند بن الحجاج وأبو يوسف محمد بن الحسن وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي. و حتى "هارون الرشيد" نفسه الذي كان يؤمن بأن الامام موسى الكاظم (ع) هو أولى منه بهذا المنصب الهام في الأمة الاسلامية كما أفشى بذلك لابنه "المأمون". فقد نقل "المأمون العباسي" كنت عند أبي "هارون" في احد الايام وتعجبت كثيراً من إكبار أبي لموسى بن جعفر وتقديره له. فقلت لأبي: يا "أمير المؤمنين"، من هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم (كتاب - قادتنا كيف نعرفهم ج6، ص305، وعيون أخبار الرضا، ج1، ص91.).
ورغم وقوفه على مقام الامام الكاظم (ع)، إلا أنه لم يرقَ لـ"هارون" أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه، وأن الجماهير وسائر الأوساط الشعبية والخاصة تؤمن أيضا هو أولى بالخلافة منه، وإن الامام (ع) يفوقه علماً وفضلاً وحكمة وثقة، وإن المسلمين قد أجمعوا على تعظيمه، فتناقلوا فضائله وعلومه، وتدفقوا على بابه من أجل الاستفتاء في الأمور الدينية. لذلك كله حقد على الإمام وارتكب تلك الجريمة المروعة حيث أودعه في ظلمات السجون، وغيّبه عن جماهيره وشيعته، وحرم الأمة الاسلامية.
فعصف بقلب "هارون" الحقد والخوف من الامام موسى بن جعفر (ع) فأودع الامام (ع) السجن لمرات عديدة في البصرة وبغداد بالاضافة الى انه أقام عليه العيون فيه لرصد أقواله وأفعاله عسى أن يجد عليه مأخذاً يقتله فيه. ولكنهم فشلوا في ذلك فلم يقدروا على ادانته في شيء، بل أثّر فيهم الامام الكاظم (ع) بحسن أخلاقه وطيب معاملته فاستمالهم إليه، مما حدا بـ"هارون الرشيد" الى نقله من سجن البصرة الى سجن "السندي بن شاهك" بغية التشديد عليه والقسوة في معاملته.
فانتقل الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) من ظلم "هارون" الى ظلام السجون، ولعل هذه المحنة التي عاناها بعزم وصبر من أقسى المحن وأفجعها التي ألمّت به فتحملها وكظم غيظه في صدره صابراً مجاهداً في سبيل الله.لقد قضى الامام (ع) زهرة شبابه في ظلمات السجون محجوباً عن أهله وشيعته، محروماً من نشر علومه على الناس جميعاً. فكان شبيه عيسى بن مريم في تقواه وورعه وصلاحه.
وجهد "هارون" في ظلم الامام (ع) وأمعن في التنكيل به خوفاً من تسلمه الخلافة، علماً أن الامام الكاظم (ع) لم يكن يبغي الحكم والسلطان، ولم يكن يبغي الجاه والمال، وإنما كان يبغي نشر العدل والحق بين الناس، ومقاومة ظلم أولئك الحكام وجورهم واستبدادهم بأمور المسلمين.
فامضى الامام موسى بن جعفر (ع) في سجون هارون الرشيد بين 7 و13 سنة حتى أعيت "هارون" فيه الحيلة ويئس منه فقرر قتله، وذلك بأن أمر بدس السم له في الرطب فاستشهد الامام الكاظم سلام الله عليه في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183 هـ ودفن في الكاظمية.
https://telegram.me/buratha