حسن الهاشمي
(يا أيها الذين آمنوا) هل هو خطاب قرآني موسع أم مضيق، جدلية طالما أخذت من الباحثين والمفسرين وأهل الفن مساحات كبيرة من بحوثهم ومقالاتهم ومحاضراتهم، نحاول أن نسلط الضوء عليها لنتعرف على مدلولالتها ومدياتها وتطبيقاتها، علنا نخرج بنتيجة شرعية عقلية تفرز من هو المؤمن الحقيقي من المؤمن السطحي على ضوء السير والمواقف بعيدا عن هالة الرموز لدى الفرق المتناكفة، وبعيدا عما تحمل تلك الفرق من متبنيات مسبقة تجيّر النص لرموزها ولو كان على خلاف الظاهر...الخطاب القرآني واضح فإنه موجه إلى الذين آمنوا، ومن ضمنه الوعيد الإلهي بالغضب والحشر في نار جهنم، إلا من استثني كالمناورة العسكرية في الالتفاف والمكيدة لإيقاع العدو بالكمائن، أو التراجع لفك حصار عن المجاهدين ونصرتهم حسبما تتطلبه المنازلة من كر وفر، ولكن ضمن إطار المعركة للظفر بالعدو والاجهاز عليه، وفي غير هاذين الاستثنائين فإن الفرار من الزحف يعد من الكبائر التي أوعد الله تعالى مرتكبيه بأشد أنواع العذاب. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (سورة الأنفال 15، 16).ومن خلال ما ذكر نستطيع إن نقسم الذين آمنوا في الآيات الآنفة الذكر إلى قسمين، الأول: الإيمان السطحي الذي لا يتعدى لقلقة اللسان، والثاني: الإيمان الحقيقي الذي يتخطى الاعتقاد إلى الثبات في المعارك والمطاولة والمجاهدة في ساحات الوغى لإثبات الحق وإدحاض الباطل ولو كره المشركون. والآيات هنا وإن كانت منصبة على الفرار والخيانة من ساحات الجهاد في معارك الرسول صلى الله علية وآله وسلم ضد المشركين، بيد إن مساحتها أكبر زمانا ومكانا من أن نحصرها في تلك المعارك فحسب، لديمومتها وقابليتها التطبيقية على جميع المديات وفي كل العصور، والحال إننا في معترك النفس نمارس الجهاد الأكبر كما وصفه الرسول الأعظم بالمقارنة مع جهاد العدو الخارجي الأصغر، فالذي ينساق إزاء نفسه الأمارة وينحني أمام إملاءات الشيطان وغرائز الحيوان فإنه وبطريق أولى يقع فريسة الغضب الإلهي من ذلك المهزوم في ساحات المعارك، وطالما الإنسان بحاجة إلى عزيمة راسخة وإرادة صلبة وإيمان متمترس ومتمرس للوقوف أمام طيش الهوى ومرديات الزمان، قد الإنسان يصمد في جبهات قتال العدو بيد إنه ربما ينهار في الوهلة الأولى أمام أعدى أعدائه وهي نفسه الأمارة بالسوء والتي هي ليست بعيدة عنه وإنما ملازمة له وبين جنباته لا تفارقه حتى هنيئة واحدة. وثمة فروق جوهرية بين الإيمان السطحي والإيمان الحقيقي، فأين الإيمان النفعي من الإيمان الفعلي؟! وأين الإيمان الظاهري من الإيمان الباطني؟! وأين الإيمان الذي يجلب المنافع الدنيوية الضيقة من الإيمان الذي يتوخى المنافع الأخروية الموسعة؟! وأين إيمان المصالح الشخصية والحزبية من إيمان المصالح العامة؟! وأين إيمان النفاق والغدر والخيانة من إيمان الطهر والوفاء والأمانة؟! وأين إيمان اللاهثين إلى ما درت معائشهم من إيمان الذين محصوا بالبلاء فكانوا القلة الصابرة ؟! وأخيرا وليس آخرا أين إيمان المنافق من إيمان المؤمن؟! أين الثرى من الثريا وأين الحصا من نجوم السما؟!وهذه الآيات تثبت وبشكل واضح لا يقبل اللبس والغموض، إن اطلاق (يا ايها الذين آمنوا) موسع وليس بمضيق، فهو أعم من المؤمنين الصابرين ليشمل كذلك المنافقين الذين يتظاهرون بالإيمان لسانا ويتباعدون عنه عملا وموقفا، فالمؤمنون السطحيون هم الذين باءوا بغضب من الله ولهم عذاب أليم، أما المؤمنون الحقيقيون هم الذين بشرهم الله تعالى في غير مرة في كتابه الكريم بالرضوان والمغفرة والجنان التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا. وكل من فر وذهب بها عريضة من ساحات الوغى والجهاد فهو لا محالة في خانة الغضب الإلهي كائنا من كان، وكل من ثبت واستبسل وجاهد ودافع عن الرسول والرسالة فهو لا محالة أيضا في خانة الرضا الإلهي، وهذا لا ينطبق على ساحات الوغى كما أسلفنا وإنما يتعداه إلى جميع مفردات الحياة، وشتان بين ايمان الأول والثاني، وكتب التاريخ والسير مليئة بمواقف الصحابة، تظهر بجلاء من الذي فرّ منهم في المعارك ليجد نفسه في خانة السخط الإلهي؟! ومن الذي ثبت وظفر ليقف وبكل جدارة في كبد خانة الرضا الإلهي؟!...
https://telegram.me/buratha