الصفحة الاقتصادية

الرواتب تحتضر.. النفط نحو 50 دولاراً: الموازنة تفقد توازنها وتقترب من "منطقة العجز الكبير"!


تُعد الاعتمادية النفطية من أبرز السمات البنيوية للاقتصاد العراقي المعاصر، إذ تمثل الإيرادات النفطية أكثر من 90% من إجمالي الإيرادات العامة، وتغطي ما يزيد على 95% من تمويل الموازنة الاتحادية. وبهذا، يتحدد مسار الأداء المالي للدولة بمستوى أسعار النفط العالمية، في ظل ضعف مساهمة القطاعات الإنتاجية غير النفطية كالزراعة والصناعة والخدمات التحويلية. هذه الهيمنة جعلت من سعر البرميل العامل الأكثر حساسية في ضبط الاستقرار المالي والاجتماعي، وأي تراجع فيه ينعكس مباشرة على قدرة الدولة في الإيفاء بالتزاماتها التشغيلية والاستثمارية.

ومع استمرار تراجع بيانات النفط الخضراء عالميا، يبرز السؤال الاقتصادي المحوري: ماذا لو انخفضت الأسعار إلى ما دون المستويات المعتمدة في الموازنة العامة؟

الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تكون رقمية بحتة، لأن الانخفاض لا يقتصر أثره على سنة مالية واحدة، بل يكشف عمق أزمة الاعتماد الأحادي على المورد ويختبر مدى استعداد الدولة لاستيعاب الصدمات المستقبلية. فبنية الموازنة العراقية قائمة على إنفاق تشغيلي مرتفع وهيمنة بنود الرواتب والدعم الحكومي على أكثر من ثلثي النفقات العامة، ما يجعل الاقتصاد عرضة لما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ "الصدمة السلبية في Terms of Trade"، أي انخفاض عائدات التصدير مقابل ثبات أو ارتفاع الالتزامات المحلية.

ومع استمرار تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى حدود 60 دولاراً للبرميل، وتوقعات بانخفاضها إلى 50 دولاراً، يصبح العراق أمام اختبار مالي هيكلي يهدد بتآكل قدرته على تمويل الإنفاق العام. وتشير تقديرات وزارة المالية إلى أن كل انخفاض مقداره دولار واحد في سعر النفط يؤدي إلى خسارة تتجاوز مليار دولار سنوياً في الإيرادات الحكومية، وهو ما يؤكد هشاشة الموازنة وضعف مرونتها تجاه التقلبات العالمية.

الخبير الاقتصادي منار العبيدي يٌقدم تصوراً واقعياً للمسار الذي قد تتخذه الحكومة في حال استمرار هذا الانخفاض، مشيراً إلى أن “المشكلة لا تُقاس بسنة مالية واحدة، بل بقدرة الدولة على قراءة المستقبل لعشر سنوات مقبلة، واتخاذ قرارات تنظر إلى الأثر البعيد لا الراهن فقط”. ويرى العبيدي أن تراجع الإيرادات النفطية سيدفع الحكومة إلى سلسلة من السيناريوهات الاضطرارية التي تُستخدم عادة في الاقتصادات الريعية عند مواجهة العجز، مثل مبادلة الديون بالأصول العامة، وتأجيل صرف الرواتب أو توزيعها على فترات زمنية، وسحب الأمانات المالية من المؤسسات الحكومية، فضلاً عن رفع الدعم تدريجياً عن المشتقات النفطية وزيادة الضرائب على القطاعات الكبرى.

هذه السيناريوهات، وفق القراءة الأكاديمية، تمثل ما يُعرف بـ إدارة العجز قصير الأجل (Short-term Deficit Management)، وهي استجابات مالية هدفها امتصاص الأزمة لا معالجتها. فبينما تسعى إلى سد الفجوة بين الإيرادات والنفقات عبر وسائل مؤقتة، فإنها في الوقت نفسه تكشف عن غياب أدوات التحوط المالي طويلة الأمد، مثل الصناديق السيادية أو برامج التنويع الاقتصادي.

إن تحليل منار العبيدي ينسجم مع الرؤية الأكاديمية التي تؤكد أن الأزمة ليست ظرفية بل هيكلية. فالعجز المالي ليس نتاج تقلب الأسعار فحسب، بل انعكاس لخلل أعمق في البنية الاقتصادية والسياسية للدولة، التي تعتمد على الريع كمصدر للشرعية الاجتماعية أكثر من كونه أداة للتنمية المستدامة. فالدولة، في ظل هذه البنية، لا تملك اقتصاداً بالمعنى الإنتاجي، بل تمتلك ماكينة توزيع للدخل النفطي على شكل رواتب، عقود، ودعم مباشر، مما يجعل أي انخفاض في النفط بمثابة هزة تهدد العقد الاجتماعي القائم على الريع لا على الإنتاج.

من هنا، فإن الإجراءات التي يقترحها العبيدي تُقرأ في الأدبيات الاقتصادية ضمن إطار السياسات المالية الانكماشية المشروطة (Constrained Fiscal Adjustments)، وهي سياسات تلجأ إليها الحكومات لتجنب الانهيار المالي مع الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي. غير أن استمرار الاعتماد عليها يؤدي إلى ديمومة الأزمة بدل حلّها، لأنها لا تمس جوهر المشكلة المتمثل في تضخّم القطاع العام وضعف الإيرادات غير النفطية.

ولعل جوهر تحليل العبيدي يتقاطع مع ما تشير إليه تقارير المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من أن الاقتصاد العراقي يفتقر إلى المرونة الهيكلية، وأن أي انخفاض في أسعار النفط بمقدار 20 إلى 30 دولاراً عن السعر المعتمد في الموازنة سيؤدي إلى عجز مزدوج: مالي في الموازنة ونقدي في ميزان المدفوعات. كما أن غياب التنسيق بين السياسة المالية والنقدية يجعل من الاستجابة للأزمات بطيئة ومجزأة، إذ تُركّز الدولة على تمويل العجز أكثر من معالجة سببه البنيوي.

ويُظهر التحليل الاقتصادي المقارن أن فنزويلا، التي واجهت أزمة مشابهة بعد انهيار النفط عام 2014، لجأت إلى طباعة العملة وتمويل العجز بالديون، فانهارت عملتها وتصاعد التضخم إلى مستويات قياسية. في المقابل، اعتمدت السعودية والإمارات نهجاً مغايراً من خلال إطلاق خطط تنويع اقتصادي وإنشاء صناديق سيادية تمتص تقلبات السوق. أما العراق، فظل عالقاً بين الخيارين: لا يمتلك مرونة مالية كالدول الغنية ولا بنية إنتاجية كالدول الصناعية.

إن ما يطرحه منار العبيدي من حلول آنية، مثل مبادلة الديون بالأصول أو تأجيل الرواتب، هو بمثابة خطة طوارئ مالية في ظل غياب الإصلاح البنيوي، لكنها لا تغني عن الحاجة إلى إصلاحات هيكلية تعيد بناء العلاقة بين الدولة والاقتصاد. فالحل الحقيقي، كما يؤكد العبيدي، لا يكمن في “الترقيع المالي” بل في إعادة هيكلة النفقات التشغيلية وتنويع مصادر الدخل وتحفيز القطاعات الإنتاجية، والانتقال من دولة تعتمد على النفط إلى اقتصاد يخلق الثروة لا ينتظرها من الخارج.

وعليه، فإن مستقبل الموازنة العراقية في ظل الانخفاض الحالي لأسعار النفط سيعتمد على قدرة الحكومة في تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة:

-تعزيز الانضباط المالي من خلال السيطرة على النفقات الجارية والحد من توسع القطاع العام.

-تنويع الإيرادات عبر تفعيل الضرائب الجمركية والقطاعات الإنتاجية.

-إعادة هيكلة الاقتصاد لتمكين القطاع الخاص من أن يصبح المنتج الأكبر ومحرك النمو بدلاً من الدولة.

إن انخفاض أسعار النفط ليس مجرد تقلب في السوق العالمية، بل مرآة تعكس هشاشة النموذج المالي العراقي. فكل تراجع في السعر يكشف غياب البدائل، ويضع الموازنة أمام عجز بنيوي يصعب معالجته بالسياسات المؤقتة. ويُظهر تحليل منار العبيدي أن الدولة العراقية ما تزال تدور في فلك “الاستجابة اللحظية” للأزمات، دون امتلاك رؤية بعيدة المدى قادرة على كسر الحلقة الريعية.

إن استمرار هذا النمط من إدارة الموارد يعني أن الاقتصاد العراقي سيبقى رهينة لتقلبات النفط، يتحرك بارتفاع الأسعار ويتباطأ بانخفاضها، فيما يظل القطاع الخاص هامشياً والاقتصاد الإنتاجي مؤجلاً.

وبذلك، فإن الحل لا يكمن في تعديل الأرقام داخل الموازنة، بل في إعادة تعريف وظيفة الدولة ذاتها: من دولة ريعية توزع الثروة إلى دولة إنتاجية تخلقها. فالمسألة لم تعد “ماذا لو انخفض النفط؟”، بل “هل يستطيع العراق أن يعيش من دون نفطه؟” — وهذا هو جوهر التحدي المقبل، بحسب مراقبين.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك