عمار العامري
لا يخفى على احد ما للمثقف من دور مؤثر في بناء أي المجتمع وتخليد شعوبه وتدعيم أسس الجذرية لهما فقد وصلتنا من الحضارات القديمة مآثر ومواقف خلفها المثقفين كانت الكتابة والتدوين والعلوم والمعارف أهم سمات تلك الحواضر التي امتدت على مدى ألاف السنين، ولم تقتصر مساهمات المثقفين على عصر معين أنما في كل الأمم وعلى كافة العصور نجد لمسات واضحة للطبقة المثقفة تتجاوز حتى دور رجال الحكم (السياسيين)، ولما نزلت الرسالة الإلهية على صدر الرسول الأكرم"ص" لم تأتي ديباجتها بتوجيه إلى العمل السياسي وتبني الشؤون الحكومية أنما أورد في أول نزول القران مصطلح(أقرا) وهذا دليل إلى التوجيه والأمر باتخاذ من المعرفة والثقافة مسار لبناء المجتمع وان دلى هذا الأمر على شيء فانه يدل على أهمية دعم المثقفين والمفكرين والعلماء باعتبارهم وحسب ما ورد في منزلات القران الكريم هم الركن الأساس في النهضة الإسلامية، كما أن اغلب من تولوا شؤون البلاد الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي ورغم ما ارتكبوه من أخطاء في مجال السلطة ألا أن بعضهم لا تغفل مراجع التاريخ عن ذكر اهتماماته الثقافية والفكرية ودعمه للحركة العلمية، وثمة شاهد أخر على أهمية الثقافة ودور المثقف في بناء المجتمع هو ما توصف به العصور المظلمة التي عقبت الإطاحة ببغداد عام 1258 إذ شهدت سيطرة عدد من الأقوام وتأسيسها لحكومات في العراق لكنها كشفت عن جهلها وعدم تبنيها للجانب الثقافي والفكري مما حدا بالمؤرخين وكتاب التاريخ بوصف تلك العصور بالمظلمة لأنها حكومات جاءت تؤسس لسلطة المال والجاه ومحاربة العلم والعلماء وتهجير المثقفين والمفكرين وحرق المكتبات ودور الثقافة.أما في العصور التاريخية الحديثة والمعاصرة فقد شهد حركة منظمة لطمس الهوية الثقافية للمجتمع بتبنيها الفكر القومي السياسي الذي لا يقبل الغريمين في السياسة والذي جاء لمحاربة الفكر والثقافة المجتمعية بمحاولات تارة (التتريك) وأخرى (التغريب) بهدف أنشاء ثقافات جديدة وإلغاء الثقافة الحقيقية، لذا سعى أصحاب الفكر القومي المتأثر بــ(الحركة الطورانية) لبناء ثقافة تدعى بـ(القومية) ومع أنها حديثة العهد على المجتمع ألا أنها دعوة لثقافة وفكر جديدين يتلخص في دعم الحركة الثقافية ونصرة المثقف تحديدا على ضوء فلسفة الفكر القومي، وبنفس الطريقة مارس اليساريون أنشاء طبقة من المثقفين التابعين لهذه الحركة ومع هذا المد كانت جهود الحركة الإسلامية تدعم الثقافة الخاصة بها، ومن ذلك نستنتج أن كل الحكومات والأفكار السياسية تحاول على تستمد عطاءها واستمرارها في البقاء من فكر وثقافة المثقف ودوره في بناء المجتمع والتأثير به، حيث يجد المتابع لتأسيس دولة العراق الحديثة عام 1921 قد وقع الكثير من مهام استكمال فصولها على كاهل المثقف الذي حملها بكل جدية، حتى سيطرة نظام البعث على السلطة التي تمكن منها وما عرف عنه من محاربة لأبناء الطبقة المثقفة ومحاولاته إلغاء الجميع وإقصائهم ألا انه أوجد طبقة (أشباه المثقفين) والتي حاول من خلالها التظاهر بدعم الطبقة المثقفة في خطوة لتوظيف الشعارات المستهلكة المساندة له والإيحاء بدعمه للمثقف العراقي.أما عراق ما بعد 2003 فشكل مفارقة كبيرة حيث نجد أن المثقف والثقافة والفكر والآداب في وادي والسياسيين وسياستهم وأحزابهم في وادي أخر والمجتمع بين هذين الواديين وهو أقرب ما يكون إلى من يقدم له الخدمات ويوفر له سبل العيش رغم قلتها وكأنما الحياة الدنيا خلقنا فيها لنعيش من اجل الأكل والشرب والتسلط ومما يعزز ذلك تخلي المثقفين الذين ركبوا أمواج السياسة عن ثقافتهم وأصبحوا يتسابقون مع عاتيات الزمن تاركين خلفهم أمجاد الأمم التي صنعها أسلافهم المثقفين والسبب يعود إلى أن من رسم خارطة طريق العراق الجديد لم يفكر أساساً في إيجاد موطن قدم للمثقف فيها، لذا باتت العلاقة بين المثقف والمجتمع ضعيفة وما برحت العلاقة أن تتماسك بين المجتمع والسياسي وكأنما هو باني مراحل التطور الاجتماعي والحضاري للأمم ولم ينظر إلى ما في جعبة المثقف من هموم وأفكار وتطلعات من شانها النهوض بواقع الحياة للمواطن والمجتمع وذلك للنظرة المادية التي زرعت في نفس المجتمع وانطلت عليه (أكذوبة الشعارات) وهو بأمس الحاجة لمن ينتشله من ظروف الحرمان والبؤس متصورا أن السياسي هو المخلص والمنقذ له والذي جعله يتأمل أن كل ما في المجتمع وداخل فضاءه هي أشياء مادية بل حتى أصبح من يتولى شؤون الثقافة ليس بمثقف ولا من هواتها، وتجد أن من يعزز هذه النظرة الاجتماعية المتدنية هم العناصر والجماعات الساعية لتسخير قوى المواطن من اجل الصعود إلى مراكز السلطة والقرار بحثا عن النقص الذي يشعر به العنصر نفسه لذا يحاول تعويضه بالمراكز الاجتماعية والجاه والثروة والمال عسى أن يسد شيء من الشعور بالنقص، فأذن ما هي الحاجة لثقافة لا تغني ولا تجلب له مرتب لا يقل عن 4000$ أو تقاعد لا يقل عن 3000$، فكل محاولات أبعاد المثقف عن الساحة الحقيقية له وتجريده من دوره التاريخي في بناء المجتمع وتعويض ذلك بفراغ مقنن لا تجني البلاد منه غير الضياع والنسيان لان ما يمجد الأمم ويخلد فيها هو ما يتركه المثقف وهذا ما اتفقت عليه البراهين جميعاً.فأذن على الأحزاب العراقية لاسيما الأحزاب المتمسكة بالسلطة النظر إلى مهمة المثقف في ترسيخ قيم المجتمع وتقويم ثقافته وعدم تهميش هذه الطبقة ذات تأثير ايجابي في مستقبل الأمة وخاصة الأحزاب السياسية لان الوصول إلى مراكز التنفيذ والقرار ببضعة أصوات تم الحصول عليها بطرق مشروعة أو غير مشروعة سوف تنتهي في حال إنهاء وجود الشيء بعد مضي مرحلة معينة، غير أن المثقف يمثل بحد ذاته كيان معطاء من الفكر والثقافة والذي يخلد ما يعجز عن تخليده الدهر ويمكن إن يكون إشعاع لاستمرارية بناء الدولة وعطاء الأحزاب أو الجماعات وبث الروح الفكرية فيهم، حيث انه يمثل مدرسة الثقافة القويمة التي يستمد منها المجتمع وخاصة السياسي دروس وعبر تفي بالغرض في الحياة العملية فان الاهتمام بالشأن السياسي وإقصاء الثقافة وتهميش المثقف يعني اضمحلال قوى الأمة وتراجع تقدمها، لذا علينا أن نعيد المسارات إلى طريق واحد يجتمع فيه المثقف إلى جانب السياسي لجعل منهم قوة تعود بالمجتمع إلى عصر الازدهار والتقدم وصناعة الحضارة التي عرف بها.
https://telegram.me/buratha
