بقلم : علي الملا
ولدت في ارض قيل لي انها (الوطن) , فنشأت في كنفه اراقب الحياة مذ عرفت ان هناك شيئا اسمه الحياة , وكلما مرت سنة من العمر كنت ازداد عشقا لهذا المجهول الذي كان اسمه (الوطن). فبدأت أتلمس عمق جراحه التي تمتد بعمق التاريخ ونزيفها المتحول الى نهرين كبيرين هما دجلة والفرات , فلم تكن طفولتي مرتعا للبراءة واللامبالاة وانما هي مزيج من التأمل والألم , وكأن يد القدر ارادت ان اعرف معنى الجراح وأتذوق مرارة الظلم لأتعايش معهما الى آخر لحظة من الحياة . وكان أخي الأكبر قد سجل بصوته على شريط مسجل قصيدة الجواهري (دجلة الخير) فكنت اسرق جهاز المسجل من غرفته واستمع الى القصيدة الرائعة وانا في الخامسة من العمر حتى حفظتها عن ظهر قلب رغم انني لم اكن افقه معاني الكثير من كلماتها الا انني كنت اهتز من اعماقي لكل حرف فيها . وفي ذات الوقت كنت استمع الى المناقشات التي كانت تدور في (البراني) بين والدي (رحمه الله) وضيوفه في كل ليلة , وكانت تتمحور حول الدين والسياسة والأدب فأجلس خلف الستارة فلم يكن يسمح لطفل في عمري مجالسة الكبار , وبعد أن اشعر بالنعاس أنسل بهدوء الى أحضان والدتي لأتوسد ذراعيها وفي رأسي الصغير تساؤلات كبيرة عن مصطلحات كثيرة عشعشت في مخيلتي ولا اعرف ابعادها. ومضت الأيام وانا اشاهد هذا (الوطن) كيف تعملقت فيه الضفادع واستأسدت فيه الفئران حتى أقفرت الديار وتشتت الجمع وتفرق الأصحاب وغادر اثنان من اخوتي الى بلدان اخرى ومات والدي ولم تبقى الا مكتبته العامرة وذكريات جميلة عن تلك الأماسي الرائعة , وبدا (البراني) موحشا وقد خلى من رواده , ولم نعد نسمع للباب من طارق ولا للضيوف من تحية ولا للشعر من قافية وكأن الحياة قد وصلت الى نهاية المطاف.وبقي الوطن أكبر هم احمله بين الضلوع وجراحه أكبر من كل جرح , اذ لم يكن بيتنا الا نسخة مصغرة منه , فحاولت السيرعكس الاتجاه والسباحة ضد التيار حتى وضعت في يدي الأغلال وسلطت على ضهري السياط في أسوء قبو من أقبية الأجهزة الأمنية . وبعد خروجي منها بقدرة قادر ومشيئة رب كريم شددت رحالي مهاجرا وملتحقا بمن سبقوني في الهجرة الى بلاد الله الواسعة باحثا عن حياة جديدة ومستقبل يكون أكبر من حجم المأساة يمسح غبار الماضي ويكفكف دموع الحزن ويلملم شتات الذات المبعثرة . ولكنني وجدت نفسي لا أحمل في صدري غير (الوطن) ولا في حقائبي الا ذكرياته الجميلة بكل ما تحمل من مرارة وشقاء , فحتى القميص الذي ارتديه يذكرني بالمكان الذي اشتريته منه والأزقة التي من خلالها وصلت الى السوق في مدينة الكاظمية ، فعشت مع (الوطن) وتعايشت معه حتى اذن الله بأن تتبدل الأحوال ويحين موعد العودة الى الديار فرجعت راكبا على جناح الأمل مستبشرا بالخير وحططت الرحال في النجف الأشرف مدينة آبائي وأجدادي التي اعتز بها كل الأعتزاز , وذلك في الثلاثين من نيسان من عام 2003 ثم توجهت الى بغداد حيث منزل والدي الذي خرجت منه مرغما . وحدث ما لم يكن بالحسبان فالمأساة استمرت بصورة مرعبة ونزيف الدم لم يشأ الى ان يزداد تدفقا , وغربان الموت اتخذت صور اخرى لحصد الأرواح ناشرة في السماء غمامة من الرعب لتحجب نور الأمل الذي قادنا الى العودة . ومع كل ذلك اتخذت القرار بالبقاء وتحمل النتائج المترتبة على ذلك القرار وسلكت ذات النهج الذي نشأت عليه من الرفض للظلم والأستهانة بكرامة الأنسان متخذا منه سبيلا للعمل دون ان التفت الى كل التحذيرات ورصاصات الغدر المختبيء خلف اللثام .واضطررت الى مغادرة بغداد قاصدا مدينة النجف الأشرف التي اعرفها وتعرفني انا وزوجتي واطفالي الخمسة , وهناك لاحت لي بارقة من الأمل عندما اعلنت دائرة الهجرة والمهجرين بأن الحكومة قد خصصت قطعا من الاراضي السكنية للمهاجرين خارج البلاد , فشعرت بسعادة غامرة لانني وبعد اربعين عاما سأمتلك دارا في (الوطن) حاصدا ثمار المعاناة الطويلة مما بعث في نفسي شعورا بالأطمئنان على مستقبل الأولاد اذا غادرتهم الى دار البقاء . وحدث ما لم يكن في الحسبان فقد رفض طلبي واستثنيت من المشمولين بهذا القرار ليس لانني غير مستوف ٍ للشروط , بل لأن مسقط رأسي في بغداد ولا يحق لي استلام قطعة ارض في مدينة النجف الأشرف مدينة الآباء والأجداد !!! ورحت أتساءل بأستغراب (اذا كبر اولادي فهل ستعطيهم الحكومة كتابا الى بلدية دمشق ليمنحوهم قطعة ارض هناك ) ؟! .ومما زاد في حيرتي فوز أوباما ( الكيني ) الأصل برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية دون ان يرفضه وطنه الجديد مع احترامه الكبير لوطنه القديم . وانا يرفض وطن آبائي وأجدادي أن يمحني بضعة أمتار من أرضه الواسعة لأتخذ منها سكنا بعد كل ما تحملته من أجله ومن أجل قضيته , ولا أدري ان كان هذا الوطن سيمنحني قبرا يستريح فيه جسدي الذي اتعبته السنين وأنحلته الخطوب أم يرسل بجثماني الى بلدية دمشق استنادا الى جواز سفري الذي يحمل سمة الأقامة فيها. لقد تبدد الحلم وأنطفأت شمعة الأمل وعدت بعد سن الأربعين ابحث عن اجابة لما كنت اسأل عنه وانا في الرابعة من العمر ما هو (الوطن) , هل هو جراح ومعاناة ؟ أم عطاء ومكتسبات ؟ وهل هو استقرار وأمان ؟ أم هو غربة ومنفى ؟ ولماذا يسمى الوطن (وطن) ؟ .
فبرغم كل التجارب التي مررت بها وما أكتسبته من ثقافة واطلاع بقي المجهول ذات المجهول والسؤال ذات السؤال: ( الوطن حقيقة أم خيال) ؟!؟!
https://telegram.me/buratha