( بقلم : جواد الشلال )
كان وحيدا...أو على الأقل نشأ لوحدة مع اختيه.. وبدأ مسيرة الحياه الصعبة..سنوات قاسية..عقيمة...كالحة السواد .. وكل شيء من حولها يعج بالجوع والفقر والمرض ...ومن مزيج البؤس والقحط..بنى نفسه بنفسه..فكان صلبا.. ذو اراده فولاذيه لاتفتر..علمته الحياه..نعم مدرسة الحياه حسب..كل العلوم.. وجعلت منه قائدا أجتماعيا..متمرسا شجاعا ..مرنا لم تفت في عضده كل المصاعب والمصائب..والويلات.. مع انه وحيدا بل زادته خبرة وحنكه ..قل مثيلها فكان أبا رحوما عطوفا ..مكتنزا لوجدان لاحدود له .. فتراه سريع الدمعه عندما يرى الظلم والالم ..سريع النداء للمساعدة عندمايستوجب ذلك .حظى بحب الناس من حوله وكان حبه لهم كثيرا فكان كبيرا في كل شيء حسن فعندما يحب فهو كبيرا وعندما يتسامح فهو كبير وعند الشجاعه والاقدام والكرم فهو كبيرا جدا...أكيد هنالك ثمة امرا مختلف فيه عن أقرانه.فكل شيء عنده سهلا فلايخشى الصعوبة مهما كان نو عها..بل تراه يمتطي صهوه الشده ويدجنها ويجعلها تحت أمرته.. لم يدخل مدرسه قط وكان قاريء للقران بصوت عذب .وكان رجل العشيرة الاول المتمرس الساعي دوما الى فعل الخير ونصره المظلوم واصلاح ذات البين.. واقفا بوجه الظالم حتى وان كان من أبناء عمومتة خاض الكثير من دروب العمل ..واستقر اخيرا في عالم التجارة ونبغ بها ايما نبوغ ..ووضع اسمه بين تجار العراق المحترمين سواء استيرادا او تصديرا وحتى عندما اصبح تاجرا شريفا لامعا وأسما كبيرا فهو بالكاد يوقع او يبصم احيانا لكن عقلة عبارة عن حاسبة عملاقة ذكية في التحليل والاستنتاج والتوقع وفي عقلة عبارة ذاكرات خزنية.. احدهما تعمل وفق السياقات المنطقية للعمل التجاري بكل تفرعاته وطرق تصريف برامجة وفق اليات عمل محكمة ومنظمة واخرى مستودع كبير تنشط حين تكون حاجة للفعل الانساني المتعلق بالعمل العشائري ومعرفة ظوابطة وفنونة ودياته وعلم رجاله أما الثالثة فتلك خزانه مفتوحة على مصراعيها ممتلئة بالحب والحنان والرأفة وحسن التدبير والكياسة الرائعه والمساعدة الجميلة وبموجب ذلك اصبح التاجر العشائري المعروف رمزا للخير والحب فقد كان يدفع من اقيام ماله لزواج الصم والبكم من اقربائه ولاتمر مناسبة مفرحة او حزينة الا وكانت بصمته واضحة جدا في المساعدة لتلك المناسبة ...وكان اسمه ينتشر وينتشر كطائرالعرفان بين العشائر العراقية عربية أو كردية على حد سواء .كان رفيع الشأن كريم الاصل مهتما بأناقته كثيرا وبالمقابل تجده راع اسرة رائع فهو يقف بالطابور صباحا لشراء الصمون ويبقى ملتزما بالطابور رغم دعوة الاخرين لتقديمه ويحصل الامر ذاته عند مراجعه الدوائر الحكومية فيبقى محافظا على وضعه وحافظا لكرامته.. ومانح الاخرين درسا بسيطا بضرورة الالتزام بالظوابط الاخلاقية والقانونية وعدم تجاوزها..ربما نمر هنا على بعض سجاياه وصفاته مرورا سريعا ولعلي ابدأ بحلمه ..فكان حليما الى حد كبير تاركا بوضوح حد السفهاء والحاسدين غير مبال بهم. ويذكرني هذا بقول الشاعر:ـسكتٌ عن السفيه فظن أني عييت وماعييت عن الجوابمتاركه السفيه بلا جواب أشد على السفيه من العذابولاشيْ احب الى السفيه أذا وقع الكريم من السباب
لذلك تراه شديد التروي متجنبا للرذائل وبذاءة اللسان والفواحش ..كي يقبل قوله ويمضي في افراد عشيرته والقريبين منه ..قال رسول الله (صل الله علية واله وسلم) ( ماأعز الله بجهل قط ,ولااذل بحلم قط)
وكذلك عن امير المؤمنين (علية السلام)(تعلموا الحلم..فأن الحلم خليل المؤمن ووزيره)
كان ذو قولا مستملحا عند سامعيه وجلاسه .. ولديه سلطه محكمه على لسانه في الحديث واختيار الالفاظ والكلمات اللائقه مع ابناء عشيرته وبقية العشائر في كافة المحافل .وكأنه يطبق قوله تعالى وتبارك(لايحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وكان الله سميعا عليما )أو حديث رسول الله (صل الله عليه واله وسلم) (ان من شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه)لذا تراه قليل الكلام ميالا الى الصمت المعقول ولايتحدث الا ان تكون هنالك حاجة ماسه للعقول وربما كان يعي بدقة فطرية متناهيه حديث الرسول الاكرم _صل الله علية واله وسلم)( مامن شي أحق بطول السجن من اللسان)فهو يتكلم حين للامر صله وواقع أو واجب في دفع ضرر وأصلاح أمر .أما في موضوع التضحية والايثار وهي خصله من خصال النبلاء فهو يؤثر الرجل الاخرين على نفسه .وقيل قديما ان المحبه هي ايثار المحبوب على نفسه فهو كان دائما على صنع المعروف وقضاء حوائج الناس من جيرانه واقاربه وممن لايعرفهم اصلا يحاول بيقين وبجد واضح ان يفرج عنهم كربهم ويغيث ملهوفهم وكان يمر بأزمات حرجة امام أجهزة الحكومه التي لاترحم وهو لايبالي وكأنه يدرك قول الله تبارك وتعالى..(لاخير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك أبتغاء مرضاه الله فسوق نؤتيه اجرا عظيما)او قول رسول الله _صل الله عليه واله وسلم)( ان لله عبادا خلقهم لحوائج الناس هم الامنون يوم القيامه )وكذلك قول سيدنا المسيح (عليه السلام)(استكثروا من شيء لاتمسه النار فقالوا ماهو ياروح الله ..؟قال المعروف)فقد كان مايفعله من معروف وقضاء حوائج الناس كثير منه على حساب صحته وراحته وبعده عن عائلته الا انه كان شغوفا الى حد الاطلاق بأمر مساعدته للناس والتفريج عن همومهم ومن جراء هذا العمل الانساني أكاد لااغالي اذا قلت ان اسمه انتشر الى خارج العراق ولاسيما الاردن وسوريا والكويت ..وربما ابعد من ذلك...وكما أسلفنا فأن عصاميته وجهده وحسن تخطيطه وتفكيره ووضعه في باب التجارة .وللتجارة كما هو معلوم باب اخر هو باب النعمه والمال فكان من المال يتصدق ويتساهل بالاسعار ويسقط بعض الديون ويوعز لابنائه بأن يخفظوا من سعر هذا .ويمنحوا دون سعر ذاك ووجهه تطفح منه الابتسامه والمحبه ..ويطغي عليه التواضع المجبول بالمحبه والاحترام..يحيي الناس جميعا عاقلهم ومجنونهم ويحنو عليهم كثير وكان يطعمهم او يضع في جيوبهم مما احله الله عليه من مال ومن نعمه ورزق حتى احتار أبنائه به ...وكانوا يقولون انك بعملك هذا ستعمل على تجارتنا ان تبور ونخسر مالنا وكان جوابه دائما برفق ورقه مشفوعا بأبتسامه حنونة واثقة (الله كريم ) (الله موجود ) تفائلوا بالخير وكان يطبق ماقاله الامام علي (عليه السلام ) (من كثرت نعمه الله عليه ..كثرت حوائج الناس اليه , فمن قام بما يحب لله كثرت نعمه الله عليه ..ومن ضيع مايحب الله فيها عرض نعمته للزوال))كان كثير المعروف على الناس بفضل الله بالعلن والسر فضلا فعندما تسأله لماذا العلن يقول بأسلوب هادئ رصين حتى يتعلم الاخرين ويتحفزوا للفعل الكريم ذاته ..وعندما تسأله عن السر فيريك من الاسباب ماتمنعك من السؤال .لم ينسى جيرانه قط.. فهو الجاري المسرع معهم في متابعه وتسريع اي معامله تخص شؤونهم ..وهوالكارم لضعافهم وهو الحاني العايد لمرضاهم ولعله يتقيد بالحديث الشريف.(كل معروف صدقه,والدال على الخير كفاعله)
وكان بكل مايملك وماصنع من محبه ورفعه وحسب ونسب ..وكذلك مما أغناه الله في ملكه وما اسبغ عليه من مال وجاه عن طريق مهنته الشريفه الا وهي مهنه التجارة الا انه كان شديد التواضع يسكن في حي فقير ليبقى قريبا من اهله وعشيرته وجيرانه.. يتفقد احوالهم بين الحين والاخر . ويخفف من اوجاعهم والامهم وقد قال بعض الحكماء (إذا نسك الشريف تواضع ..واذا نسك الوضيع تكبر) وثمة قول فيه .من حقوق الشرف عليك ان تتواضع لمن هو دونك وتنصف من هو مثلك وان تنبل على ماهو فوقك لان الخضوع غير المبرر قبيح من الاحرار والشرفاء والشجعان ودلاله على الفقر ودناءه النفس ودليل على سقوط الهمه والقدر..
حج البيت ثلاث وأعتمر مرة واحدة .. وكان جميع الحجيج ممن يرافقوه يذكرون همته وخدمته لهم فكان يحمل الثلج على كاهليه ليرتوي الحجاج ماءا باردا عذبا وحج نيابه عن والديه وكان شغوفا بقراءة القران ويحفظ بعض الادعية رمم جامعه بالقرب من مسكنه وقام بتأثيثه .ووضع عليه مكبرات الصوت بغيه الاذان وقراءة القران وكان يؤذن في الجامع .ويقوم بتوزيع وجبه افطار للصائمين طيله شهر رمضان في الجامع..هذه اجزاء بسيطه من تلك الشخصية الرائعه .لانستطيع اكمالها جميعا لسعه اتجاهاتها وغزارة عطائها الانساني كان يقوم بكل ذلك ونحن نئن تحت وطأه جمهوية الخوف والموت.
وفي يوم شديد الحراره من شهر تموز وفي عام 1992 ودون سابق انذار حان موعد استشهاد هذا الرجل الانسان الشيخ هو وابنه الشاب الذي يملك من الجمال في الشكل والروح الكثير . ووريث أبيه في العفة والكرم وطيب اللسان .أختطفت ارواحهم الشريفه الزكيه الكريمه على ايدي جلاد العصر وكان عمرة قد تجاوز السبعين ببضع سنين , لالشيء معروف سوى انهم تجار نعم تجار فقط لكنهم تجار شرف والتزام ومبدأ.. تجار أخلاق وأدب ورفعه ,صُدم كل من سمع بالخبر واحتار الناس من جراء الصدمه ..وكظموا غيظهم أسوة بال بيت النبوة الاطهاروظل يدورون في فلك الاسئله اللامتناهي ..متى...كيف ...ماذا فعلوا.. لاجواب عليها ابدا وكأن الله أراد هذه النهاية الحزينة المشرفة لهذا الرجل العضيم ونجله اراد لها ان يختما حياتهما الانسانيه الصادقة بالشهادة ..وبعد حين تواردت بعض العوائل الفقيرة المعدمه .. واغلب تلك العوائل من ذوي المعدومين .تطالب برواتبها التي كان يمنحها اليهم الحاج الشهيد جبار نادر الساعدي ..وعندما سمعوا بالخبر انهال عليهم كالصاعقه ورفعوا ايديهم للسماء ..وكأنهم يطلبون من السماء ان تنتقم ..ويرددون قوله تعالى..
يأيها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيه مرضيه.
https://telegram.me/buratha