( بقلم : احمد عبد الرحمن )
خلال خمسة اعوام ونصف العام، وهو عمر التجربة العراقية الجديدة بعد عقود من الظلم والاستبداد والديكتاتورية تناوب على رئاسة الدولة في العراق شخصين هما الشيخ غازي الياور والسيد جلال الطالباني، واذا احتسبنا الرؤساء الدوريين لمجلس الحكم الانتقالي المنحل فسيكون عدد الذين تنابوا على الرئاسة هم احدى عشر شخصية-او عشر شخصيات بأعتبار ان واحدا استشهد قبل ان بتبوأ الرئاسة الدورية للمجلس وهو الشهيد عز الدين سليم- يمثلون اتجاهات ومدارس سياسية وفكرية مختلفة وينحدرون من بيئات لاتتماثل فيما بينها وان تشابهت في بعض الجوانب، وتناوب على رئاسة الحكومة ثلاث شخصيات حتى الان لايمثلون لونا سياسيا وفكريا واحدا.والى جانب ذلك تصدى للمسؤولية في مختلف مؤسسات الدولة ومفاصلها في بغداد والمحافظات عشرات-ان لم نقل مئات- الشخصيات من مختلف القوى والاحزاب والتيارات السياسية والفكرية.
وفي خضم الحركة المتسارعة للوقائع والاحداث غابت مفردة الانقلاب العسكري، عن سياقات تلك الحركة رغم انها اطلت في بعض الاحيان عبر وسائل الاعلام والمنابر السياسية، دون ان تتجازو دائرة التمنيات والطموحات، او التلويح بها كورقة لنيل مكاسب وامتيازات لم يكن ممكنا لطرف ما ان يحققها بطرق ووسائل افضل وانجع.وفي مقابل ذلك فأن مظاهر الديمقراطية كانت تهيمن يوما بعد اخر بدرجة اكبر على المشهد السياسي العام، ولعل ابرز مظاهر الديمقراطية هي الانتخابات، ومبدأ الانتخابات بات يعد مبدأ اساسيا ورئيسيا في الحياة السياسية في الدولة العراقية المعاصرة-الجديدة، واذا كان عموم الناس يتذكرون الانتخابات البرلمانية الاولى وكذلك الثانية والى جانبها انتخابات مجالس المحافظات، ويتذكرون ايضا ملحمة الاستفتاء الشعبي العام على مشروع الدستور الدائم في الخامس عشر من شهر تشرن الاول-اكتوبر من عام 2005، فأن الكثير منهم ربما لايتوقفون ولايلتفتون كثيرا الى ان الوسائل والاليات والسياقات التي يتم على ضوئها انتخاب-او اختيار-اعضاء ورؤساء المجالس البلدية للاقضية والنواحي، ومدراء المؤسسات والدوائر الحكومية المهمة مثل قيادات الشرطة في المحافظات وغيرها، الى اختيار الوزراء واصحاب الدرجات الخاصة التي لايمكن حتى لرئيس الوزراء الذي يمثل قمة هرم السلطة التنفيذية ان ينفرد بأختيار أي منهم من دون التداول والبحث والنقاش المستفيض مع القوى والتيارات المشاركة في العملية السياسية، وربما حتى مع غير المشاركة ايضا، في حال كان منهجها لايتقاطع مع السياقات الصحيحة للعمل السياسي.
ان مبدأ الانتخابات ارسى في واقع الامر اسس ومرتكزات مهمة للعملية السياسية في العراق، رغم ما اعتراه من سلبيات واخطاء وهفوات على صعيد التطبيق العملي، فهو رسخ المباديء الاخرى للديمقراطية والمتمثلة بالمشاركة السياسية للجميع وفق ضوابط ومعايير متفق عليها، ومقرة في الدستور وفي وثائق رسمية اخرى، وكذلك رسخ مبدأ التداول السلمي للسلطة، الذي هو حصيلة طبيعية لمبدأ الانتخابات والمشاركة السياسية.قد توجد انتخابات بشكل مستمر وعلى مستويات مختلفة في الكثير من الدول، لكنها في الواقع لاتعبر عن منهج ديمقراطي حقيقي لانها تفتقر الى مبدأ المشاركة السياسية الحقيقية، ولاتفضي بأي حال من الاحوال الى ايجاد وترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة، بل ان الهدف منها يتمثل بتوفير الغطاء الشرعي لاحتكار السلطة والاستئثار بها من قبل شخص معين او حزب بذاته، او فئة تمتلك سطوة ونفوذا اكتسبته بفعل ظروف واوضاع معينة وحافظت عليه بمساعدة خارجية.
واذا كان ذلك قائما في العراق قبل التاسع من نيسان-ابريل من عام 2003، فأنه غاب واختفى بعد ذلك التأريخ، ولايبدو ان بأمكان أي طرف اعادته، سيما وان المنهج الصحيح اخذ بالترسخ والتجذر يوما بعد اخر.ومضافا الى ذلك كله فأن الانتخابات كمفردة عامة اوجدت وعيا سياسيا مهما لدى مختلف فئات وشرائح المجتمع العراقي التي كانت لعقود طويلة من الزمن مغيبة ومهمشة ومحاصرة ولم يكن يسمح لها الا بتلقي ثقافة حزبية مشوهة وزائفة تقوم على تمجيد العنف والارهاب والتسلط، وتسويق كل المفاهيم والافكار الخاطئة والمنحرفة، وعمقت الانتخابات كممارسة ونظرية الثقافة السياسية السليمة التي هي احدى مظاهر وتجليات الوعي السياسي العام، واتاحت فرصا وافاقا واسعة وفسيحة للاطلاع على تجارب الشعوب والمجتمعات الاخرى، والاستفادة من نقاط وعوامل قوتها.
ولاشك ان تعميق مبدأ الانتخابات، من خلال ترويجه ونشره كجزء من الثقافة السياسية العامة، ومن خلال المشاركة في اية عملية انتخابية مشاركة حقيقة وفاعلية من منطلقات ودوافع وطنية، والاتجاه الى اختيار المخلصين والشرفاء واصحاب التأريخ النظيف ليمثلوا ابناء الشعب، وليتبوأوا مواقع المسوؤليية، كل ذلك يعد من المقومات الاساسية لبناء العراق الجديد، وللسير في طريق صحيح قطعنا فيه شوطا غير قليل، ومازال فيه المهم والكثير، والمنطلق السليم لمعالجة المشاكل والاثار السلبية للسياسات والمناهج الخاطئة.
https://telegram.me/buratha