( بقلم : ميثم المبرقع )
الرجال العظماء يرحلون عنا في غفلة من الزمن ولم نعرف قدرهم الا وهم راحلون نحو السماء وقد نؤنبهم احياءً ونؤبنهم امواتاً ولكنهم يبقون عظماء رغم غفلتنا وغفلة الزمن. اثبتت مسيرة العظماء على مر الدهور والعصور انهم يدفعون ثمن انتمائهم للاسلام وغيرهم يربحون ثمن هذا الانتماء ولكن الرابحون والمضحون سواء في نهاية المطاف ستكون نهايتهم حفرة كلما وسعت اضغطها الحجر والمدر..
ومن هؤلاء العظماء الذين فارقونا رغما عنا ورحلوا والشوط لما يكتمل هو السيد الفقيد الراحل المجاهد موحان الجابري هذا الرجل الذي أبى الا ان يواصل الدرب وان قلّ سالكوه فسجل حضوراً مشرفاً في ساحات المواجهة والمقاومة ضد النظام الاجرامي السابق ، فلم يهن او يستكين.. وقد يبرر المداهنون في زمن المزايدات والرعب البعثي مواقفهم ونفاقهم خوفاً او طمعاً وقد يختفي الاخرون ويقفوا على التل في زمن الفتنة والمحنة لاعتقادهم بان الوقوف على التل أسلم وقد يعلن المخطئون ندمهم او يكابرون ويحسبون أن تلونهم وتزلفهم للطاغية حذاقة او (تقية) وقد يتسنمون مواقع في العراق الجديد مستغلين خطايا الاحتلال بالاحتيال والانتحال ومحاولة البقاء بتلون الحرباء وبرك الدماء.. والرجال الاشداء وان اهملهم الغافلون او اغفلهم المهلمون يبقون أرقاماً شامخة في ضمير ووجدان الجماهير لانهم صدقوا واخلصوا في اداء تكليفهم الوطني والشرعي فلم يضطروا للتبرير او للادعاء لانهم ليس لديهم ما يمكن تبريره او تفسيره.ومن هؤلاء الفرسان والشجعان الذي قالوا (لا) للطاغية صدام ولم يضطروا ولو تقية على اطلاق(نعم) في زمن التدجين والترويض والتزلف والنفاق. واصحاب اللاءات قليلون ومعدودون في زمن حصره البعث لخدمة الطاغية وحده فلم يتفوه بـ (لا) الا المخلصون وستكون ضريبة لائهم عمود مشنقة يشبه (لا) لكنها بالمقلوب..
في سنوات الصمت والخنوع والرعب البعثي انبرى السيد موحان الجابري ليواجه أبشع نظام بوليسي اجرامي في العراق والمنطقة فاختار موقعاً يوفر له حركة اوسع وجهد اسرع في نشاطه المعارض فانتقل من بغداد الى ميسان سنة 1982 ووجد اهلها الكرام عيناً ساهرة وقلباً حاضناً له من عيون ازلام النظام وجواسيسه. ثمة ثقافة خطيرة تكرست في الواقع العراقي المعارض في بدايات الثمانينات من القرن الماضي وهي ثقافة الهزيمة والمظلومية والاختفاء وهي بحد ذاتها كانت تشكل موقفاً معارضاً وغاية ما يمكن ان يكون معارضة هو الخروج من همينة وسيطرة النظام ولو بالاختفاء والهروب والتنكر.
واما الراحل المجاهد موحان الجابري فقد غادر هذه الثقافة وانسلخ منها واثبت ان المعارضة الحقيقة هي ليست الاختفاء من النظام بل مواجهته وانتقاء الاساليب الفاعلة في الحاق الاذى بمفاصل النظام الاجرامي فقام بتشكيل خلايا سرية أرتبطت وامتدت من ميسان الى بغداد والنصرية والبصرة فبادر الى الكفاح المسلح تحت راية شهيد المحراب آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس) ونفذت مجاميعه عمليات جهادية نوعية هزت اركان السلطة البعثية في بغداد وبقية المحافظات وانزل الرعب في قلوب ازلام السلطة الامنية وباغت مخابرات النظام ومديريات امنه في عمليات جريئة وفاعلة.
ونتيجة هذه العمليات النوعية الجريئة تعرضت مجاميع الراحل موحان الجابري في بغداد الى اعتقالات وحشية وانكشفت بعض خيوط تنظيمه في بغداد فأصبحاً هدفاً مهماً لعناصر السلطات الامنية في بغداد وعمم اسمه وصورته في محافظات العراق لالقاء القبض عليه واستنفرت سيطرات العراق كافة للبحث عنه. وبقى مطارداً من قبل الاجهزة الامنية السابقة لكنه لم يستسلم او ينهزم بل بقي صامداً كالاسد لا تهزه تهديدات اجهزة السلطة القمعية حتى انطلقت انتفاضة شعبان الخالدة في اربعة عشر محافظة لتعلن استفتاءً دموياً لرفض النظام البعثي الاجرامي وكان للراحل موحان الجابري دور مهم في الحضور الفاعل في هذه الانتفاضة.
وبعد الاخفاق في تحقيق اهداف الانتفاضة لاسباب دولية واقليمية ومحلية لا مجال لذكرها استعاد الفقيد موحان الجابري دوره الكفاحي من جديد مستعيداً تشكيل خلاياه السرية وارتباطاته الخيطية دون مكترث ببشاعة ووحشية النظام البعثي البائد. وقد نصحه الاخرون بضرورة الهجرة الى ايران لتفادي المطاردة الامنية والتخلص من قبضة النظام الاجرامية لكنه ابى الا ان يواصل جهاده داخل الوطن ما دام هناك مساحة للتحرك والحاق الاذى بالنظام.وبعد الاجراءات الامنية المكثفة في عموم العراق ومحافظة ميسان بحثاً عن قادة الانتفاضة وثواراها وتواصل الحصار الامني على هذه المحافظة ضاقت الارض بالراحل الفقيد موحان الجابري بما وسعت واشتدت به المحن فاضطر مرغماً وبغير ارادته بالهجرة الى ايران لانتقاء مواقع اخرى لمواصلة الجهاد والمواجهة بحسب ما توفره له هذه الحركة من اليات اوسع لديمومة الكفاح المسلح.
واثناء وصوله الى الحدود الايرانية مع عائلته مجتازا ومتجاوزا الكثير من السيطرات في خفاء الليل سطر ملحمة اخرى في الايثار والمواساة لابناء شعبه فرفض الدخول مع عائلته حتى تسمح السلطات الايرانية المعنية بالسماح لكل العوائل التي جاءت معه قرب الحدود مع ايران بالدخول فقد استحصل موافقة خاصة بالدخول مع عائلته كونه معروفاً لدى المجاميع الجهادية المرابطة بالاهوار فرفض ذلك بقوة وبقيت عائلته في رمضاء الحدود اللاهبة كورقة ضغط على الايرانيين للسماح بدخول بقية العوائل الى ايران.
وقد اثبت في تلك اللحظات الصعبة والحرجة تفانيه ومواساته لابناء وطنه دون الاستئثار بما منح من امتيازات بسبب مواقفه الجهادية ضد النظام البائد. ولما استجابت الجهات الايرانية المعنية لمطالبه بدخول كل العوائل الماكثة على الحدود اوصل عائلته الى مكان آمن ليواصل جهاده وارتباطه مع القواعد الجماهيرية المؤمنة ولم يركن للدعة والراحة والاستجمام طيلة مكوثه خارج العراق.
وبعد سقوط الطاغية في التاسع من نيسان سنة 2003 لم يتاجر بجهاده في سوق المزايدات الفضائية والاعلامية ليقبض ثمنه مواقع زائلة وبعض حطام الدنيا بل اسرع بالعودة الى الوطن ليبدأ عهداً جديداً في محافظة ميسان التي حررت نفسها بسواعد مجاهدي الحركة الاسلامية بدون تدخل من القوات الاجنبية فشكل مع اخوانه حكومة محلية تحت عنوان الهيئة المشرفة العليا لتسيير الوضع الامني والاداري والسياسي في المحافظة وتقديم الخدمات للمواطنين فكان مثالاً رائعاً في استيعاب الناس واحتوائهم بروح معتدلة ومتعقلة بعيدة عن الثارات والتعصب والانتقام فكان الراحل الفقيد موحان الجابري صمام امان وضمانة تمنع حدوث كوارث وصراعات عشائرية في محافظة ميسان.
رغم انتمائه لحركة حزب الله في العراق لكنه كان قلباً نابضاً بالمحبة والوحدو والانسجام وروحاً تحتضن كل ابناء العراق دون تمييز بين طيف سياسي او طرف حزبي فطالما أسرع لحقن الدماء وفك النزاعات السياسية والعشائرية وتوسط لاصلاح ذات البين ومساعدة المحتاجين والفقراء. كان يحب الجميع حتى الذين يضمرون له العداء وكان متسامحاً ومحباً للخير والتعاون وكان منفتحاً على الجميع لكنه كان صلباً في مبادئه لا يجامل عليها ولا يداري الاخرين او يجاريهم على حسابها.
وكان من الانصار المحبين لمنهج وخط شهيد المحراب وكان يوصي مقربيه ومحبيه بضرورة التمسك بخط المرجعية الدينية لكنه كان قلقاً من التغلغل البعثي في مؤسسات العراق الجديد وطالما حذر من خطورة هؤلاء الذين يمتلكون فناً في التلون والنفاق والتبرقع بالف قناع.
غادرنا الراحل موحان الجابري ونحن لما نكمل المشوار ولكنه سيبقى قرير العين مازال في مسارنا منهج وفكر شهيد المحراب ورؤاه وسنواصل الدرب الذي سار عليه فقيدنا الراحل الى النهاية.
https://telegram.me/buratha