بقلم: حسن الهاشمي
بادئ ذي بدء نشير إلى سؤال طالما شغل ذهن الإنسان لاسيما أولئك المعنيون بتهذيب وصيانة النفس الإنسانية، والسؤال هو لماذا الإنسان وعلى الرغم من انه يرفل بالنعم الإلهية ويتحلى بالفطرة السليمة ويعلم بدناءة الذنب وخساسته، نجده بعد كل ذنب ومعصية يقترفها فانه يواجه تأنيب الضمير ويقع تحت مطرقة النفس اللوامة!؟ وعلى الرغم من كل ذلك فانه يعاود الذنب مرارا ولا يرتدع عن ارتكاب المعاصي!؟يقال في معرض الإجابة عن السؤال المتقدم: الجذور الأصلية للذنوب هي الأخلاق الرذيلة والصفات الذميمة، وما دام الإنسان لا يجهد نفسه لمعالجة جذور الشجرة الخبيثة في نفسه، فان إصلاح الأغصان والأوراق دون التوجه لمعالجة الجذور لا يجدي نفعا، ربما يبقى الانجذاب والميل نحو الذنب وتخطي الحدود الإلهية مترسبا في أعماق وجوده.حينما تعشعش الصفات الذميمة في الإنسان من قبيل الحسد والتكبر والعصبية من دون مبرر، فانه دائما ينساق نحو وسوسة النفس ويتوغل في ارتكاب الذنوب، وفي إحدى روايات المعصومين إشارة إلى هذه الحقيقية المرة يقول الإمام علي (ع) (ما من تائب إلا وقد تسلم له توبته ماخلا سيئ الخلق لا يكاد يتوب من ذنب إلا وقع في غيره اشر منه ) ( بحار الأنوار للمجلسي-ج70,ص296-باب سوء الخلق –ح4)لعله من الممكن في القول أن المراد من جملة سيئ الخلق هو ذلك الإنسان العصبي المتقطب الوجه، ولكن هذه الاستفادة غير صحيحة حيث أن المراد من هذه الجملة ما يباين مكارم الأخلاق التي وردت في حديث الرسول الأكرم (ص) حينما قال ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) (مسترك الوسائل – الحر العاملي – ج11 , ص 187,بحار الانوار – ج6 ص 210- مكارم الأخلاق ص8) وبعبارة أخرى الرسول الأكرم (ص) إنما بعث لتطهير النفوس من الأدران، واصطفاء الأرواح من الخصال الذميمة من قبيل الحسد والطمع والحرص ... تلك الخصال التي جاء وصفها في القران الكريم بالفواحش الباطنة: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (سورة الانعام –اية 151-).ويكفي وجود إحدى هذه الفواحش في روح الإنسان للحيلولة دون تقدمه ورقيه، وطالما أن هذه الموانع موجودة، فان التوبة والاستغفار الظاهري لا يمكن لها أن تثمر حيث أن مارد الشوق إلى الذنب الموجود في قرارة نفس الإنسان سرعانما يغرس فيه روح المعاودة للذنب، ولعل العلاج الوحيد لهذه الحالة ينحصر في الجهاد مع النفس.حقا أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر كما سمي في الروايات، ولأهمية الموضوع فقد تم التأكيد عليه مرارا في النصوص الدينية والهدف من وراء ذلك هو إصلاح النفس وتشذيبها من الصفات والخصال القبيحة، ومن الطبيعي أن هذا العمل العظيم لا يمكن تحصيله بالأعمال العبادية كالصلاة فحسب، بل يمكن القول أن الصلاة أحيانا تتجلى فيها بعض الصفات الذميمة! كالمصلي الذي يمكن مشاهدة الحرص والطمع والجشع والحقد والحسد والتكبر متجذرة في أعماق نفسه، فانه قطعا وأثناء الصلاة لا يمكن أن يكون في مأمن من هذه الرذائل والموبقات، كيف يكون في منأى من هذه الرذائل وهو على الدوام يفكر بأي طريقة يمكن أن يحصل على المال والشهرة؟أو كيف يكون بعيدا عن تلك الموبقات والحال إننا نجد الحقد والغضب وعدم سعة الصدر تطفح منه وأنها ملاصقة لفكره مما يجعله يقابل اقل سيئة موجهة إليه يقابلها بأشد المجازاة وأبشعها؟!وفي جملة واحدة حينما يلقلق لسانه بذكر الله ترى أن قلبه يسير في الأزقة والطرقات، وكلما ارتبط القلب بالدنيا والمغريات أثناء الصلاة كلما كانت تلك الصلاة أبعد ما تكون عن معراج الصالحين، ولكي يتم التحلق في سماء الفضيلة والوصول إلى معارج الكمال لا بد من تشذيب القلب من جميع شوائب الدنيا والتحرر من إسار الغرائز والابتعاد عن الذنوب والمعاصي، وحينئذ يتضح جليا كلام الإمام السجاد الذي قال: ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) (بحار الانوار –ج70-باب حب الدنيا وذمها –ص19,ح9).مر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي ورجع وهو يبكي فقال موسى يا رب عبدك يبكي من مخافتك، فقال تعالى يابن عمران ! لو نزل دماغه مع عينيه ورفع يديه حتى يسقطا، لم اغفر له وهو يحب الدنيا! (جامع السعادات – المولى محمد النراقي-ج2ص27)حقيقة لا مناص منها أكد عليها كبار العلماء وهي أن الخطوة الأولى نحو تهذيب النفس تبدأ من كبح جماح الميول والرغبات النفسية وعدم التوجه نحو مغريات الحياة الدنيا الظاهرية منها والباطنية، وإذا لم تتحقق تلك الخطوة –على أتم وجه – فان إقحام النفس بالأعمال العبادية الأعم من الواجبة والمستحبة، يبقى خال من أية فائدة مرجوة ويتم مشاهدة هذا المعنى بوضوح أكثر في ثقافة القران التي هي ملاك أعمالنا، فان الأولوية قد انصبت على مسالة تزكية النفس وطهارتها: ( ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (سورة الجمعة -2-)يمكن الإشارة أيضا إلى آيات أخرى تؤكد على الآثار والنتائج والتجليات لطهارة النفس في أعمال الإنسان حينما تقول: ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (سورة الحشر- 9- )في هذه الآية الشريفة تمت الإشارة إلى الإيثار وتخطي الذات على الرغم من الفقر والحاجة وهذا من المصاديق الواضحة لذم الدنيا وعدم التعلق بالأمور المادية، وفي نظر القران الكريم فان إصلاح وفساد المجتمعات البشرية مرهون بسيرة بني البشر ومنهجهم في الحياة، فالله سبحانه يقول في هذا المضمار: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (سورة الروم -41-)جميع الحروب الطاحنة التي تقضي على الحرث والنسل والعمران إنما هي من الصفات الذميمة للإنسان، ومنشأها الحسد والبخل والحقد والضغينة ويمكن التساؤل بصدق ما هي جذور الصفات الذميمة؟وأي شيء يبعث على ظهور وتنمية وتقوية تلك الصفات؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من القول أن جذور الأخلاق الذميمة هي العقائد الخاطئة والتفكير المنحرف مثلما أن جذور العقائد المنحرفة يتم تغذيتها بواسطة الإرادة الضعيفة للشخص، بيد انه إذا لم تترتب على تلك الجذور آثار خارجية وعملية وبتعبير آخر إذا لم يعترف الإنسان بالذنب والخطأ لا يكون في منأى من العذاب والعقاب الإلهي.على الإنسان أن لا يكتفي بهذا المقدار ويراوح مكانه، لماذا؟ لان الصفات الذميمة الكامنة في ذاته تجره قهرا نحو ارتكاب الذنب، فمهما أمكن فان جل هم الإنسان وغمه ينبغي أن ينصب في خانة التصدي للأخلاق الذميمة والقضاء عليها أو ترويضها على أقل التقادير، فما زالت الفرص التي وضعها الله سبحانه متاحة وتحت اختياره، عليه أن يغتنمها أنى وجدها ولا يضيعها لأنها تمر مر السحاب ولا تعود إليه ثانية.إحدى هذه الفرص الذهبية والمحطات الإلهية لصيانة النفس أشهر رجب وشعبان ورمضان المباركة، فبطلب العون من الذات القدسية لله سبحانه والتوجه نحو الأعمال المستحبة المخصوصة لهذه الأشهر الشريفة والانشغال بالأدعية والأذكار الواردة يمكن التغلب على صفات النفس الذميمة.والأمر الجدير بالمعالجة أننا نجد أحيانا أن منشأ الصفات الذميمة في وجود الإنسان هي الذنوب ونتائج الأعمال الخاطئة التي اقترفها الوالدان، بيد أن آثارها متبلورة في وجود الابن، ولكن هذه المسالة لا تقلل من وظيفة الابن في التصدي لإصلاح نفسه ومكافحة النقص الذي جاء من غيره.فكما انه إذا أصيب الإنسان بعاهة أو مرض في جسمه نتيجة أخطاء ارتكبها الآخرون بحقه – كابتلاءه بضعف النظر مثلا – عليه أن يعالج نفسه كيفما كان، كذلك في مدار إصلاح النفس تقع مسؤولية كبيرة على عاتقه، فمثلما يتحتم عليه إصلاح الانحرافات التي سببها هو لنفسه، يتحتم عليه إصلاح الانحرافات التي سببها الآخرون.لعله بات من المؤكد أن الصفات الذميمة تعد جزءا من طبع البشر ومنشأها أمر عدمي لذا لا يمكن نسبة تلك الصفات إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه وجود محض ليس للشر إليه سبيل، وعليه لا يمكن أن يصدر من الوجود المطلق إلا الخير والأمر الوجودي، إذ ليس للشر واقعية في صفحة الوجود وكل الشرور تنتهي بحال من الأحوال إلى الاعدام، ولهذا قالوا في محله أن الشر أمر قياسي ليس له وجود نفسي، فالأفعى بما هي ليس فيها أي شر وإنما تتصف به إذا قيست إلى الإنسان الذي يتأذى من لسعتها.والصفات الذميمة متجذرة في عمق وجود جميع البشر حتى الأنبياء والأولياء، والله سبحانه يمتحن كل العباد ليميز الخبيث من الطيب وان بروز الصفات الذميمة في البعض راجع إلى شخصهم واختيارهم تلك الصفات، وكمثال على ذلك الامتحان الذي تعرض له النبي ادم (ع) بتحريمه التناول من الشجرة الممنوعة، فالشيطان كان يعلم نقاط ضعفه فاقترب منه وقال له: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. (سورة طه-120-) بات نبي الله آدم يتأرجح بين وسوسة النفس وطاعة الرب، ربما أن تأصل حب الملك وحياة الخلد في قلبه قد أوقعه في شراك الشيطان وأكل من الشجرة الممنوعة وبتعبير القران فان صفاته الذميمة قد ظهرت للعيان، بيد انه عرف نفسه قبل غيره والتفت عما بدر منه وتأسف عليه كثيرا وبكى على أثره بكاء مرا وتاب من ذنبه من دون رجعة، بعد مرور سنوات عديدة بقي على هذا المنوال ريثما خرج حب الدنيا والملك الذي لا يبلى تماما من قلبه، فحينئذ قبل الله توبته وشملته شآبيب رحمته فاختاره الله صفيا له وجعله خليفة في أرضه.
https://telegram.me/buratha