الشيخ. عباس السعيد
إن الفهم المنهجي للقرآن الكريم يعد من العوامل الهامة والعناصر الحيوية في تأسيس علاقة متينة مع كتاب الله الحكيم. ولعل من أبرز العوامل التي أدت إلى ضمور الثقافة القرآنية بين المتدينين هو عدم وضوح خصائص هذا الكتاب، ومنهجيته في الخطاب، وطريقته في الوصول إلى المقاصد والأهداف.ونحن هنا نتعرض لخاصية هامة من خصائص القرآن الكريم وأسلوبه الفريد، وهي منهجه في بناء الإنسان، وهذه خاصية في غاية الضرورة والأهمية بالنسبة لفهمه، بل نستطيع القول جازمين أن الاستفادة من القرآن الكريم تتضاعف أضعافاً من خلال استيعاب منهجه الفريد في البناء، وطريقته الخاصة في التأثير، فمعرفة هذا المنهج لها أثرٌ سيال ومفعولٌ هائلٌ كبير في التعاطي مع كتاب الله الحكيم.
ولذا نحن هنا نطرح هذا السؤال المحوري: كيف يبني القرآن الإنسان؟
وواقعاً إن الإجابة على مثل السؤال المركزي تحتاج إلى مؤلف ضخمً لبسط القول فيه، وتناول المنهج القرآني ومناقشته من جميع الجهات و الزوايا،، ولكن لأنه لا يترك الميسور بالمعسور، نقدم هذه الإثارة. وقبل الإجابة على السؤال نقول: بالبداهة، إن بناء الإنسان في المنهج القرآني يسير وفق الرؤية الكونية والبصيرة العقدية التي يبتني عليها القرآن، ولذا فإن هذا المنهج يدور مدار قيم التوحيد بمعناه الشامل، ويسير مع حقائق الرسالات على طريقها الطويل، وهو أرقى أطروحة عملية سماوية جاءت لتحقيق الغاية من وجود الإنسان.بل إن نمو الإنسان وسعيه نحو الكمال لا يكون بدون رؤية صحيحة نحو الكون تنير له الطريق في ظلمات الحياة. والإنسان إذا وقف بعيداً عن بصائر الوحي سوف يقع فريسة لثقافة الأرض، وسوف تبتلع المادية إنسانيته بأكملها ولن تبقي منه إلا العظام.ولهذا فإن بناء الإنسان وفق المنهج القرآني يبدأ من خلال وضعه على السكة الصحيحة في الرؤية والعقيدة، بل إن القرآن يحافظ على زمام هذه العقيدة وفاعليتها النابضة في كل آن وفي كل حين حتى لا يحيد الإنسان عن الجادة القويمة ولا يميل عن الطريقة الحقة. والرؤية العقائدية التي نتحدث عنها ليست المعلومات الجامدة التي يمتلكها عامة المسلمين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم عن الدين والعقائد، وإنما هي البصيرة التي تغمر وجود الإنسان وتكون بمثابة النار التي متى ما لامست عقل الإنسان حتى اشتعل واتقد بغير حدود.وانطلاقاُ مما ذكرنا نقول: إن القرآن الكريم يبني الإنسان من خلال بيانه للحقائق الكبرى التي تمثل رؤية الإنسان وبصيرته في الحياة والتي لا تنير له الطريق الصحيح فحسب، بل تتفاعل مع الإنسان ومع كل ذرات وجوده، فتنتج إرادة أصلب من الجبال. ولهذا نجد القرآن الكريم يبسط القول عن قيم التوحيد وحقائق الرسالات، ومناهج العمل وطبيعة الإنسان، أكثر بكثير من حديثه عن الفقه والأحكام، والأنظمة والدساتير، ذلك لأن تشييد أركان هذا الكائن - حتى يصل إلى درجات الإنسانية - بحاجة إلى تفصيل الآيات وتبيان البصائر، حتى يرى الحقائق بلا حجاب. أما الشرائع والدساتير فيكتفي فيها ببيان الخطوط العريضة، ويدع التفريعات والتفاصيل للفقهاء الربانيين.
وحتى لا ندع الكلام عائماً لا بد أن نأتي بمثال يوضح ما ذكرناه. إن إخبار القرآن بملكية الله سبحانه وتعالى لهذا الكون الفسيح بما فيه ومن فيه هو من الحقائق الكبرى التي يبينها القرآن. و التفكر والتأمل في هذه الحقائق والتفاعل الروحي والداخلي معها يمثل رصيداً تربوياً ضخماً لأنه يفتح للإنسان نوافذ واسعة تطل على عالم آخر، غير عالم الشهادة، فينتج تفاعلاً صميمياً مع عالم الغيب، فإذا كان الإنسان مؤمناً بهذه الحقيقة إيماناً حقيقياً، وقد هيمنت هذه الحقيقة على قلبه وروحه، حينها فإن هذه الحقيقة تستحيل بصيرة إلهية تنير للإنسان طريقه، فلا يرجو أحداً إلا الله لكونه المالك الحقيقي لهذا الوجود، ولا يعصي الله وكيف يعصي الله بنعمه وعطاياه؟ وما هي إلا أمانة قد استخلفه الله عليها، ولا يخشى غير الله لكون الله هو المهيمن و" الرحمن على العرش استوى"، وغير ذلك الكثير من الآثار والتجليات، وهكذا تكون الحقائق الكبرى التي يفصلها القرآن بصائر تنير للإنسان سبل السلام وتهديه للتي هي أقوم. وفي الختام نقول : إن الحقائق الكبرى التي يبينها القرآن هي أحد السبل في بناء الإنسان، ولا بد أن تتحول هذه الحقائق إلى جزء لا يتجزء من وجود الإنسان الرسالي ومن تفكيره وسلوكه، فلا تكون مواقفه منقطعة عن هذه الحقائق الكبرى وما تقرره من مقررات ومعايير تحكم سلوكه وتعاطيه مع هذه الحياة. وما هذه المقالة إلا مجرد خطوة على الطريق نخطوها إلى الأمام نحو كتاب الله الكريم.
https://telegram.me/buratha