بقلم: حسن الهاشمي
يجود بالنفس إن ضن الجواد بها *** والجود بالنفس أسمى غاية الجودالإنسان بطبيعته الجسمانية ميال نحو المادة وزخارف الحياة وزبارجها، بيد أن الذي يجعله أن يحجم عنها الدوافع الروحية والمعنوية التي تختلج نفسه، وكلما كانت الدوافع الروحية أسمى وأنبل كلما كانت الإجادة بالنفس متجذرة وذات دوافع نبيلة، فالذي يجود بنفسه دفاعا عن القيم والفضيلة غير الذي يجود بنفسه في سبيل منفعة شخصية أو نزوة عابرة، فشتان بين الحالتين ومثلما أن الدوافع الإنسانية النبيلة تبقى خالدة فالذي يدافع عنها بالمال والجاه والنفس يبقى خالدا تبعا لخلودها، وكما أن الإمام الحسين عليه السلام الصائن لنفسه في ذات الله والمدافع الأول عن القيم والمناقب والأهداف السامقة التي تأخذ بيد الإنسان لتوصله إلى شاطيء الأمان في الدنيا والآخرة، فكان للإيثار معنى خاص في كربلاء وأخذ رونقه ولمعانه وبريقه في علياء الخلود حيث أن الدوافع والمعطيات والمقومات خالصة لوجه الله لا يشوبها من دنس المادة والميول الشخصية أية شائبة، ومن هذا المنطلق حري بنا أن نتعرف على مفردة الإيثار وانعكاس اظلتها على مفردات الحياة لكي تتجلى مفاهيمها بأبهى صورة وهي عندما يضحي الإنسان المبدئي بنفسه في سبيل إمام العقيدة وعقيدة الإمام تكون لتلك التضحية خصوصية غير متوفرة في قريناتها، علما أن الجواد - عند العرف - يشح بنفسه عادة دون ماله، ولكن في سبيل العقيدة يكون الجود بالنفس أسمى غاية الجود. الإيثار لغة: قال الفيومي في (المصباح المنير) آثرته بالمد فضلته وقال فخر الدين الطريحى في (مجمع البحرين): ويؤثرون على أنفسهم، أي يقدمون على أنفسهم من قولهم آثره على نفسه أي قدمه وفضله وقال ابن الأثير في النهاية ويستأثر عليكم أي يفضل عليكم غيركم في الفئ.والفرق بين الإيثار والمواساة: قال الشريف الجرجاني في (التعريفات) المواساة أن ينزل غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه والإيثار أن يقدم غيره على نفسه فيهما وهو النهاية في الإخوة، والإيثار نتيجة العفة التي هي من فضائل النفس وشعبة من شعب الجود الذي هو أفضل خلق وسجية وأجل غريزة من الغرائز الإنسانية.إذن الإيثار اصطلاحا: أن يقدم الإنسان غيره على نفسه، والمواساة : أن يواسي غيره بنفسه، والإيثار أفضل وهي أعلا مرتبة في السخاء ودرجة هي أرقى درجة في الجود وإذا كان كذلك فمراتب الإيثار لا تضبط لأنها نسبية وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بالإضافة إلى ما آثر به وبذله لغيره وهي (مرتبة بذل النفس) والإيثار بها وهي أعلا مراتب الإيثار، وقد آثر أهل بيت الرسول بأقواتهم وباتوا طاوين ثلاثا فنزلت سورة (هل أتى) مدحا لهم، وآثر أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه مرارا عديدة كالمقداد وعمار وغيرهما وآثر أبو ذر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالماء العذب مع شدة عطشه، وآثر جماعة من الصحابة بعضهم بعضا وهم صرعى بالماء مع شدة العطش حتى ماتوا كلهم عطاشى، وحديث صاع التمر مشهور عند المحدثين فأنه طاف أربعين بيتا ورجع إلى صاحبه كل واحد يؤثر به صديقه.والإيثار هو أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبدي، أي تؤثر غيرك وتقدمه على نفسك في أمر غير تعبدي، مثل: أن يكون معك طعام وأنت جائع، وصاحبك جائع مثلك ففي هذه الحال إذا آثرته فإنك محمود على هذا الإيثار؛ لقول الله تبارك وتعالى في وصف الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ َ) (الحشر:9). ووجه إيثارهم على أنفسهم أن المهاجرين لما قدموا المدينة تلقاهم الأنصار بالإكرام والاحترام والإيثار بالمال. وبلغ الإيثار أوجه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأنه آثر النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه حين بات على فراشه ليلة الهجرة وبذل نفسه له في الحروب الطاحنة التي فرت فيها أبطال الصحابة، وكذلك لولده العباس (عليه السلام) حين آثر أخاه الحسين (عليه السلام) بنفسه وفداه بروحه فلم يشرب الماء مع كونه شديد الظمأ، وعلى سبيله سلك شهداء كربلاء فأن الجميع آثروا الحسين (عليه السلام) بنفوسهم.هذه الأخلاقية الراقية تجدها متجسدة في الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، عمرو بن الحجاج كان مأمورا من قبل عمرو بن سعد لمنع الحسين من الاقتراب إلى الشريعة، أي أنهم قد ضربوا على الإمام حصارا مائيا مقيتا، نافع بن هلال أوصل نفسه إلى الشريعة، التفت عمرو بن الحجاج إليه قائلا من أنت؟ أجابه: نافع بن هلال، قال له عمرو ما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال نافع: لأشرب من الماء الذي منعتموه على ذرية الرسول، فقال عمرو: اشرب، رد عليه نافع: لا والله لا أشرب منه قطرة والحسين عليه السلام عطشان، فقال له عمرو ولا سبيل إلى ما أردتم إنما وضعونا بهذا المكان لنمنعكم من الماء. ( تاريخ أبي مخنف ج1 ص488) وهذا الفدائي العظيم قد ضرب مثالا رائعا في الإيثار عندما أحجم عن شرب الماء مواساة لعطش الحسين عليه السلام.ولما استشهد عدد كبير من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في يوم العاشر من محرم، وتناقص عددهم، جاء أبو ثمامة الصيداوي وقال للإمام عليه السلام: نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، لا والله، لا تُقتل حتى أُقتل دونك، وأحبّ أن ألقى الله وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها، فرفع الإمام رأسه إلى السماء وقال: ذكرت الصلاة.. جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم، هذا أول وقتها.ثم يقف عليه السلام مصلياً بأصحابه، ويقف أبو ثمامة أمامه يحمي صلاة الخاشعين من الغدر، أوَ ليس الإمام الحسين هو الصلاة!! من غيره يمثل روحها ومعدنها!! ولو لم يكن ذلك!! ولو لم يكن منه عطاءه عليه السلام تحت ظلال السيوف لما كان لها من أثر أو ظلال على أرض الواقع!! نعم.. وقف الصيداوي بكل شجاعة أمام الإمام الحسين عليه السلام درعاً يتلقى السهام والنبال بصدره وبجسده الطاهر غير عابئ بكل ذلك! حتى إذا أثخن بالسهام والنبال وانتهت الصلاة، سقط على الأرض صريعاً... أوفيت يا بن رسول الله؟ نعم... نعم... يا أبا ثمامة لقد وفيت، أنت معي في الجنة.أبو الفضل العباس أسم لامع في دنيا الإيثار والمواساة ولا تراني أجد نظيرا له في التاريخ القديم والمعاصر عندما ضرب أروع الأمثلة في الإيثار وبعد أن أوصل نفسه إلى الشريعة وامتلكها بعد أن أزاح عنها الأشرار بألوفهم المؤلفة، وكان يتلظى عطشا، ولما اغترف من الماء ليشرب تذكر عطش الحسين عليه السلام فرمى الماء على الماء وقال:يا نفس من بعد الحسين هوني*** وبعده لا كنت أو تكونيهذا الحسين وارد المنون*** وتشربين بارد المعين ( مقتل الحسين للمقرم ص 336)وفي النهاية إيثار الإمام الحسين عليه السلام عندما قدم فرسه على نفسه بعد اقتحامه الشريعة وبعد أن كشف عمرو بن الحجاج وأربعة آلاف من جنوده عن الماء، ولما أحس الفرس ببرودة الماء فهمّ أن يشرب، فقال له الإمام أنت عطشان وأنا عطشان فلا أشرب حتى تشرب، فرفع الفرس رأسه كأنه فهم الكلام.( مقتل الحسين للمقرم ص347)ما جرى في كربلاء من أحداث مليئة بالإيثار والمواساة والنبل، وهي بحق مدرسة لكل من يريد أن يتعلم معطيات الإنسانية الخالدة التي تسمو بالإنسان إلى مدارج الكمال في الدارين، والدوافع التي اختلجت أنفس رجالات كربلاء هي عامرة بالتقوى والإخلاص والفضيلة ولا يشوبها شيء من حطام الدنيا الزائلة، ولا يمكن مقايستها بأي حال من الأحوال بمن سواها من الثورات الإصلاحية أو غيرها.وخلاصة القول أن الله تعالى لا يتخلى عن عباده المحسنين ومراتب الجود : أ- الجود بالنفس ب- الجود بالعلم ج- الجود بالمال د- الجود بالجاه والسلطان هـ- الجود بالوقت والراحة، وهذا الجود كما أسلفنا يتألق بتألق الدوافع التي تدفع صاحبه بالإقدام على ما يجود به، يقول الله تبارك وتعالى: أفمَن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أمَّن أسس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين [التوبة:109]. أفمن أسس حياته ومستقبله، على تقوى الله تعالى ورضوانه، على خوف من الله وخشيته، خيرٌ أمَّن أسس حياته ومستقبله على معصية وتمرُّد وتَعَدٍّ وانتهاك لحدود الله وحُرُماته، وهذا هو الفاصل بين معسكر الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره على مدى التاريخ، وبين معسكر يزيد بن معاوية وأتباعه ومن ضمنهم الوهابية وأصحاب الأفكار الظلامية المقيتة، ومن سُنّة الله تبارك وتعالى أن ينصر أوليائه، وأن يحفظ أحبابه، وأن يؤيد عباده الصالحين: إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إنّ الله لا يحب كلّ خوّانٍ كفور [الحج:38]، ومن سُننه كذلك أن يخذل أعداءه، وأن ينتقم ممن عاداه وحادَّه. هل رأيتم متصدقاً أخزاه الله؟ هل رأيتم مُحسناً ضيّعه الله؟ إنما يُخزي الله أعداءه ومَن نادّه وهو عادة أهل المعاصي والهوى وأهل الفواحش والسيئات، هم الذين يُخزيهم الله تعالى ويقطع عنهم حبلَه ومدَده، أما أهل الجود والصدقة والمعروف، فإنّ الله – عز وجل – يبارك لهم سواء كانوا أحياء بالبركة والسعة: مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة والله يُضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261]. أو أمواتا بالرحمة والخلود، كما حصل لشهداء الطف: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران : 169].وما أحوجنا ونحن نعيش أجواء التغيير التي طالما تحمل بين ثناياها دوافع الأنانية والحصول على الامتيازات حتى ولو أتت على حساب التسقيط والافتراء والتهجم على الآخرين للحصول على المكاسب والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المقاعد في المناصب الريادية في الدولة، وللحيلولة دون الوقوع في المهاوي حري بنا أن نتحلى بالإيثار وأن ننتهج بذلك النهج الإسلامي الراقي الذي جسده الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه خير تجسيد في كربلاء الطف، وسطروا بذلك أروع اللوحات المعنوية الخالدة في صفحات الوجود، وكل أمة تريد أن تحيا حياة ملئها الحب والمودة والانسجام وبالتالي الرقي والتقدم عليها انتهال معاني الإيثار من مدرسة الحسين العريقة، ذلك أن الإيثار هو الذي يكرس حالات المحبة والوئام بين أفراد المجتمع الواحد بغض النظر عن قومياته ومذاهبه واتجاهاته وميوله، فإنه حالة إنسانية راقية تنجذب إزاءها الأنفس السليمة التي تصبو دائما وأبدا نحو خدمة النوع الإنساني في هذه المعمورة.
https://telegram.me/buratha