إن سوريا اليوم تمر بامتحان صعب، وهناك تهديد ناجم عن تحركات التيارات الإرهابية كـ«القاعدة» و«داعش»، وهذا ما فاقم من القلق في المنطقة، كما إن هناك خشية من أن يجعل الإرهابيون سوريا حاضنةً آمنة لهم.
من ناحية أخرى، هناك تحديات، ناجمة عن الاعتداءات والتدخل العسكري للكيان الصهيوني ومن خلفه أميركا، ومتحديهما الإقليميين من الخارج. وهؤلاء ارتكبوا أخطاء إستراتيجية لا تُغتفر في حساباتهم، وهو أمر لا يمكن كتمانه. إن الاعتداءات والتدخل هدفهما الواضح هو هدم الصروح الاجتماعية والثروات العلمية والبنية التحية الاقتصادية والقدرة الدفاعية لسوريا.
من مقال لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي
طبيعي أن يجتاح العالم الإسلامي، القلق الجاد إزاء ما سيكون مستقبل منطقة غرب آسيا، نظراً إلى الظروف التي تعيشها بلاد الشام وفلسطين.
إن شعوب هذه المنطقة، كان لها، ولا يزال، الدور الحاسم في رسم المصير السياسي للعالم الإسلامي. ذلك أنه، وخلال قرون متمادية، تتعرض كما يحصل منذ عقود، لضربات عنيفة ناجمة عن أزمة أوروبا اليهودية – المسيحية، التي انتقلت إلى منطقتنا، بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً بسبب تجاهل الحقوق السيادية لشعوب هذه المنطقة.
خلال كل سنوات عملي كديبلوماسي، كان الحوار قائماً حول الأزمة الفلسطينية. وكنت أواجَه دوماً بهذا الاستدلال من قبل الزملاء الأوروبيين الذين يكررون لازمة أن «الشعب الألماني يشعر بالخجل، وبتحمل المسؤولية نتيجة مجازر حكومة النازيين ضد اليهود».
هذا كلام سليم، لأن السلوك الوحشي الذي ساد تلك المدة القاتمة من تاريخ أوروبا، ترك جراحاً غائرة في جسد أهل تلك القارة، وخلّف وراءه عدداً من القروح الخبيثة علی جسد بقية دول العالم.
إن بلدي إيران، ورغم حيادها، تعرضت للاحتلال بسبب تداعيات تلك الحرب الكبرى، وتجرّع شعبي وبلدي مرارة الخسائر التي لا تُعوَّض بسبب ذلك الاحتلال.
طوال المباحثات الديبلوماسية، كانت الأطراف الأخرى تُعرب عن خجلها، وتعلن تحملها للمسؤولية عما جرى. وكان يتبادر إلى ذهني سؤال مباشر يتصل بأحوالنا اليوم: من يتحمل المسؤولية عن العار والخجل الناجمَين عن جرائم إسرائيل. فهي تحتل أراضي الفلسطينيين، وتنتهك كل الوقت، كل القرارات الدولية، وتمارس العدوان على وحدة أراضي وسيادة الدول المجاورة لفلسطين المحتلة. وتستمر في مضايقاتها للناس، وتعرقل مسار إرسال المساعدات الإنسانية، وتقوم بالاعتداءات الجوية ضد المدنيين. وتكفي الإشارة إلى النموذج الأخير، حيث ارتكب «هولوكوست» فظيع، في مستشفى «شهداء الأقصى» يوم 14 تشرين الأول / أكتوبر 2024، وحيث يتجسد النموذج المعاصر للإبادة الجماعية، التي تقوم بها الحكومة النازية في معسكر غزة؟
واليوم، تمتد دائرة هذه الجرائم البربرية، وتتوسع الوحشية الإسرائيلية إلى سوريا. ما يدفعني إلى أن أُضيف أيضاً سؤالاً جديداً: من هو المسؤول عن اعتداء إسرائيل على أراضي بلد يعيش مخاض سقوط حكومة ونشوء دولة؟
إنّ الإعراب عن الأسف والقلق يُعدّ من أبسط العبارات، وهو يُعدّ أحياناً من سفاسف الكلمات التي تُستخدم في آداب عدد من «الدول المسؤولة عن تغيير مصير شعوب غرب آسيا».
توجد فرصة من أجل احترام آراء كل المكونات والاتجاهات الفكرية الموجودة في سوريا. وهناك تحديات ناجمة عن الاعتداءات الصهيونية، التي تدعمها أميركا وحلفاؤهما الذين ارتكبوا أخطاء لا تغتفر.
اليوم، يمر أكثر من 75 عاماً، حيث تبقى «المقاومة»، هي السبيل الوحيد المتاح أمام أبناء هذه المنطقة، لمواجهة الاعتداءات السافرة للكيان الصهيوني، وفي مواجهة الدعم العلني للدول التي تتنصل من المسؤولية عن الكوارث القائمة.
لقد تبلورت «المقاومة» في أذهان الآباء والأمهات، وتجلّت في السواعد القوية لأبناء المقاومة، وعُبّر عنها بأشكال مختلفة ومتنوعة. وظلت صورة المقاومة طوال هذه المدة، قائمة بحسب مقتضيات الزمان والقدرة والإمكانات، لكنها، بنت ثقافة نموذجها وفقاً لثلاثية «أطفال الحجارة» كما رسمها الشاعر السوري نزار قباني. صحيح أنه لم يعش أيام غزة الحالية، ولكنه رسمها بدقة في آفاق مخيلته:
يا تلاميذ غزة
علمونا
بعض ما عندكم
فنحن نسينا
علمونا
إنه ذلك الشاعر الذي رسم صورة تآزر الشيعة والسنّة، وتشكيل جبهة مشتركة بين شعوب سوريا والعراق ولبنان وإيران وبقية دول المنطقة، وهي الصورة التي مثّلت طوق نجاة للعالم الإسلامي يوم واجهت عدوان «داعش».
سمّيتك الجنوب
يا لابساً عباءة الحسين
وشمس كربلاء
يا شجر الورد الذي يحترف الفداء
يا ثورة الأرض التقت بثورة السماء
يا جسداً يطلع من ترابه
قمحٌ وأنبياء
سمّيتك الجنوب
يا قمر الحزن الذي يطلع ليلاً من عيون فاطمة
يا سفن الصيد التي تحترف المقاومة...
يا ضفدع النهر الذي
يقرأ طول الليل سورة المقاومة
إن هذا النتاج الأدبي، يدل على أنّ ثبات واستقامة أهالي الشام ضد الكيان الصهيوني، كما يعكس مودتهم وتعاطفهم مع «حزب الله»، وهي التي ازدادت سرعة و شدة لا مثيل لها
خلال حرب تموز عام 2006، وهي مشاعر لم تكن مستوردة أو أداة تم ضخّها من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تمر سوريا بامتحان صعب، وهناك تهديد ناجم عن تحركات التيارات الإرهابية كـ«القاعدة» و«داعش»، وهذا يزيد القلق في المنطقة، وهناك خشية من أن يجعل الإرهابيون سوريا حاضنة آمنة لهم
إنه من السذاجة بمكان، أن نتصور أنه بتغيير لون علم دولة سوف تتغير الرؤى والتطلعات الاجتماعية لذلك المجتمع. إن الشعب السوري يمثّله أولئك الشجعان، الذين سطّروا ملاحم المقاومة في حرب تشرين عام 1973. كما إن وجهة نظر أبناء سوريا الأحرار في الدفاع عن القضية الفلسطينية، كانت سبباً أساسياً في تبدد آمال الأعداء، بانفصال سوريا عن جبهة المقاومة، رغم انضمام نظام الحكم العروبي البعثي السابق إلى صفوف المشاركين في مؤتمر مدريد.
من وجهة نظري، أعتقد أنّ أحداث سوريا الأخيرة، يجب ألّا تؤدي إلى انتهاك السيادة، ولا الاعتداء على وحدة الأراضي وهزيمة نظام الحكم الوطني في هذة الدولة. وربما من المناسب، أن نأخذ بحكمة أدونيس، ودعوته مواطنيه إلى أن يتريثوا قبل صدور الحكم. لقد كان رأيه صائباً حين قال «إن الشعب السوري في كنه وجوده لا يرفض التغيير بل يرفض السلوك و الأساليب التي تؤدي إلى نتائج تتنافى مع ذات التغيير».
لذلك، إن الأحداث الأخيرة تشكّل فرصة سانحة من أجل إظهار الاحترام لآراء كل المكونات القومية، واحترام كل الاتجاهات الفكرية الموجودة في سوريا.
إن سوريا اليوم تمر بامتحان صعب. وهناك تهديد ناجم عن تحركات التيارات الإرهابية كـ«القاعدة» و«داعش»، وهذا ما فاقم من القلق في المنطقة، كما إن هناك خشية من أن يجعل الإرهابيون سوريا حاضنة آمنة لهم.
من ناحية أخرى، هناك تحديات، ناجمة عن الاعتداءات والتدخل العسكري للكيان الصهيوني ومن خلفه أميركا، ومتحدّيهما الإقليميين من الخارج. وهؤلاء ارتكبوا أخطاء إستراتيجية لا تُغتفر في حساباتهم، وهو أمرٌ لا يمكن كتمانه. إن الاعتداءات والتدخل هدفهما الواضح هو هدم الصروح الاجتماعية والثروات العلمية والبنية التحية الاقتصادية والقدرة الدفاعية لسوريا.
ورغم المصاعب التي تعتري هذا المسار، والناجمة عن الضربات الناجمة بفعل هجوم الجيوش الأجنبية على سوريا، إلا أنه يمكن النظر بوضوح، إلى وجود شعب، هو من طينة الشعب السوري نفسها، ويعيش في جوار سوريا. شعب أعزل، لكنه يتسلح بمعنويات عالية، وإيمان راسخ. وها نحن نراهم في مخيم جباليا الصغير، ويقاومون الاعتداءات البرية والجوية للجيش الصهيوني طوال شهرين بكل شجاعة و بسالة.
إن السبيل للخروج من المأزق الحالي، والحفاظ على راية الاستقلال، واحترام شموخ الشعب السوري، وبقاء رايته خفّاقة، يكون عبر الحفاظ على الانسجام والتعايش بين أبناء هذا البلد. كذلك، عبر الانتخابات الحرة، ضمن سياق تقرير مستقبل هذا البلد على أيدي جميع أبنائه.
إن احترام آراء الشعب، يتم عبر انتخابات حرة ونزيهة تعكس إرادة الشعب السوري، وتقود إلى تشكيل نظام سياسي اختارته كل مكونات المجتمع. وهو ما يشكل لبنة وتوجه السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في إطار القرار 2254 لمجلس الأمن الدولي.
* وزير الخارجية الإيرانية
https://telegram.me/buratha