كوثر العزاوي ||
الشهداء حكايات من جوهر الملكوت فمن أراد استنشاق النقاء والنأي عن عالم الشبهات، فليحلّق في فضاء وصاياهم وليَرِد نبع صافي عذبَهم معين لاينضب، فما على العطاشى إلّا أن يغترفوا كل حين غرفة من ذلك العذب الذي ليستذوقوا كل ما
ينعش جدب الأرواح! فلديهم دواء لكلّ آفة، لأنهم أتقَنوا فقهَ مقدمات الوصول كما خَبَروا فقه الأصول في
في مرحلة اتّسمت بالشحّ، عهد بلا وفاء، قِمَم بلا هِمم، أقوال بلا أفعال، شعارات بلا مصداق، قيافات بلا إنجاز، حماس بلا إقدام! وبذات الزمن يتراجع الجميع، ويبقى الشّهداء إرث الأولياء لايجوز التّفريط فيه، بل لا بدَّ من العكوف على المحافظة على دمائهم والنَّهل من تجربة الشهادة، لنتعلّم منها كيف تكون الإنسانيّة في مصداقيّتها ووعيها وجهادها، وكيف تكون إرادة الصبر والتّحدّي، وكيف تكون العبوديّة لله وحده عطاءً متدفِّقًا للإنسان والحياة، والولاء لآل محمد"عليهم السلام"وبقية الله في الارض"أرواحنا فداه" كما نتعلم من تراثهم، كيف تكون الحريّة والكرامة ماثلة في الواقع، سيرة وصفحات من العزَّة، وقهرًا للذلّ والهوان، كيف لاوقد تركوا لنا حكايا لاتشبه حكايا من صدّعوا الرؤوس من المتبجحين! فلم يعد يحلو البوح إلّا لهم وفيهم بما يليق من جميل العبارة وطراوة الكلمة، فهم رجالٌ ماعرفوا الذل ولا الهوانَ، كما لم يستهينوا إلّا بالباطل وأهله، إنهم الشهداء، صُنّاع التاريخ، بُناة الأمم، صانعوا المجد، مبدِعوا طرق البذل والتضحيات، إنهم سادة الوجود، يبنون للأمة كيانها، ويخطّون لها كرامتها، جماجمهم صرحُ عزةٍ، وأجسادهم جُدُرُ كرامة، ودماؤهم ماء الحياة للدين والمجتمع إلى يوم القيامة! فلا يَحِق لكل مَن هبّ ودبّ أن يستعير سجاياهم ويتقمصّ دورهم،ويتباهى بما لم يقوَ على إحراز ماعندهم من محاسن الصفات وشمائل الخير، مالم تتجلى تربية محمد وآل محمد على مُحيّا مَن يدّعي، في ألفاظه وسلوكه وعظيم مواقفه، وثبات مبادئه، وليت مَن يزعم أنهُ مع الشهداء، فلا أقلّ من أن تكون شخصيته خير مثال في القول والفعل ومصداقٍ لمقام " كُونوا لنا زَيَنًا.." بامتلاكَ قدَرًا مِن التهذيب المُحمَّديّ العلويّ الحسينيّ إلى آخر المقامات الّتي تجعل منك محطّ اقتداءٍ واحتِرام أينما تحلّ، مصانِعًا وجهًا واحدًا لا عدّة وجوه! ولَعَمرُ الله! ما الشّهداء سوى صفوة خبَروا الله والإيمان بعمق، وعاشوه تجربة وأثبتوه موقفا، وعاهدوا ربهم وشعوبهم، أنّ عهدهم بالشهادة ليس كلمة تطلق في الفضاء فتذروها الرياح! وليست مجرّد ترفٍ أو سفسطة أو لذّة شخصيّة ذهنيّة، بل عهد بمعنى الصبر والفداء والتضحية والجهاد والبذل والعناء، ودفع ضريية من غزير الدم الّذي يصنع فجر الأمم المستضعفة والشعوب المحرومة! فعندما نقول شهيد: يعني ذلك التديّن في زمن الشهوات وإتاحة اللذائذ، يعني الالتزام في زمن الخنوع والولاءات المشبوهة، يعني العهد المتجذِّر المستنِد إلى صدق الإخلاص في كلّ تجلّياته العقائدية والروحيّة والأخلاقيّة والإيمانيّة، يعني الحركة من عمق التكليف، وأكثر من ذلك، فهم مَن يشهد على تقاعس النّاس عن القيام بتكليفهم، والتفريط بمسؤوليّاتهم كما أنهم يشهدون على الحياة بأنّ للحقّ أهله ورجاله فيذودون عنه مهما غلت التَّضحيات!! فما أروع البوح ومااشجاه مع ارواحٍ على ساحلها نجمع شتات مابعثرته رياح تفاهات بعض البشر، ونرتشف من نبعِ معنويات الشهداء، ولعل أروع الدروس الذي نتعلمها من الشهداء: {إنّ مَن يعِشْ لنفسه يمُتْ ذكره، ولا يكون له قدر ولاقيمة ولاوزن ولا رفعة ولا شأن، ومن ينسَ مبادئهُ ومجتمعهُ ودينهُ وقيَمَهُ ويتنكّر لهويتهِ، ينسَهْ الجميع وكأنهُ ماكان ولم يكون!
{وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الزُّمر ٦١
٢٠-ربيع اول-١٤٤٥هج
٦-١٠-٢٠٢٣م
https://telegram.me/buratha