كوثر العزاوي ||
دعوة حنونة، مزيج من حرص وتذكير، وفي غمرة النّعم الوفيرة هي ناقوس حبّ لإلفات البشر الى ذكر الله واستشعار وجوده المطلق "عزوجل"في كل مكان وزمان، وذلك بالتوجّه و الانشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة، والخشية من مَحكَمة عدلهِ ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولاكبيرة إلّا أحصاها في صحيفةٍ تتقلّدها الأعناق شاهدة على أصحابها يوم الحساب، وهذا مايجعلنا ندرك أنّ الغفلة عن الله غُبن وجحود، لأنها تسبب الغفلة عن الذات والنفس أيضا، والدليل واضح في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} الحشر ١٩.مما يؤدّي إلی انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية ثم ينسی أوامر خالقه، وبالتالي يغفل عن ادّخار ما ينبغي له في يوم القيامة من جميل القول والفعل والموقف!، فضلا عن نسيان الله وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي، والغنى اللامحدود، وكلّ ما سواه مرتبط به ومحتاج لذاته المقدّسة، ولعل هذه الغفلة هي السبب في تصوّر الانسان نفسه مستقِلًا مستغنيًا عن المبدأ، وهذا النسيان بحدّ ذاته من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاتهِ الذاتية وطبيعة خلْقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، فإذا نسيَ مبدأه فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وَحل الحيوانية والأنا وشِباك الذات، ليدخل عالم التجبّر والعلوّ وعدم المروءة! ومن هذا المنطلق يدفعنا قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَهَ ولْتَنظُرْ نفسٌ مَاقدّمَتْ لِغَد..}الحشر ١٨ الى التوازن في حركة الوصول مادمنا نروم الكمال، فلاينبغي البكاء على الماضي، ولا الغرور بالحاضر، كلاهما محض اشتباه! والدليل قوله تعالى:{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مافاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لايُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} الحديد٢٣- والهدف الإلهي واضح، بمعنى ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشَدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة، والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبَر والجسر الذي اسمه الدنيا بشكل لا تستولي علی لباب قلوبكم، وتفقدوا معها كيانكم وشخصيّتكم وتحسَبون أنّكم تفقهون! لأنّ المظاهر البرّاقة في دار الغرور تُبهر الإنسان وتجذبهُ من حيث لايشعر، فتلهيه عن ذكر الحقّ سبحانه، وقد يستيقظ فجأة ويری أنّ الوقت قد فات، وهو قد تخلّف عن الركب! فالإنسان المتوازن ـأيها الاصدقاءـ إنّما ينظر إلى الغَد، إلى المستقبل، والغد بمعناه الواسع هو مابقيَ من عمرنا، وماأعددنا لأنفسنا بعد الممات، ولابد ان ندرك إنّما الحياة الدنيا كقطرة ماء بالنسبة إلى بحر الحياة الآخرة، عندئذٍ ننتَبه، إنها لَمفارَقة مُحزِنة أن يُخطِّط الإنسان لحياته القصيرة، ولا يُخطّط لحياته الأبدية، ومن هنا يضيع اكثر الناس وهم لايشعرون! وذلك بسبب طول الأمل، والتعلّق بزخارف الدنيا وما قد حاز فيها من جليل النعم، وعند فوات بعضها تراه يحزن وينسى المُنعِم، ويَصدر منه مايَصدر من الإساءة في لحظة غفلة واشتباه!
ومن هنا كان نداء القرآن العجيب:
"ولْتَنظُرْ نفسٌ ماقدّمَتْ لغد"، فمثل هذا الاحساس عاصِمٌ من الغفلة والانحراف، وأكثر الناس جرأة على المعصية، مَن نسي الموت وركَنَ إلى الدنيا، وتلك حقيقة لا يدركها إلّا العقلاء، فطُوبى لمَن وعاها.!
٦-ربيع أول-١٤٤٥هج
٢٢-٩-٢٠٢٣م
https://telegram.me/buratha