مصطفى الهادي.
لا فرق بين الخلود والأبدية، فهما شيء واحد كما قال تعالى عن أهل الجنة والنار : (خالدين فيها أبدا).(1)
البحث عن الخلود وإطالة العمر يُعد من أهم الأماني التي أرّقت الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض، فإطالة العمر والسعي نحو الخلود ينطلق من عوامل نفسية قوية عند الإنسان ، وهذا ما تطرقت إليه الكتب السماوية حيث ذكر القرآن ذلك من أن مخلوقات أخرى حاولت استدراج الإنسان نحو السقوط بعد أن تميّز عليها ، فلوحت له بورقة طول العمر (الخلود) ،فكان أول خطاب بين هذين المخلوقين وآدم بعد في طور الإعداد هو قول المخلوق الأقدم له : (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).(2)
فقد جعل أمام أنظار آدم (الخلود والمال). وهذا ما ذكرته اقدم الكتب السماوية التوراة كما يذكر سفر التكوين في محاورة بين المخلوق الجديد (الإنسان) وبين مخلوق سابق له إبليس حيث قال له متسائلا : (أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة ..لئلا تموتا، فقال إبليس: لن تموتا! يوم تأكلان منه تكونا كالله).(3) يعني خالدين مثل الله خالقكم ولذلك منعكما ربكما من الأكل من هذه الشجرة. وهذا النص كرره القرآن أيضا فذكر جانبا من الحوار فنقل قول إبليس لآدم : (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين).(4)
والخلود حالة متجذرة في الإنسان ، لأن الله تعالى خلق آدم وجعل فيه القدرة ان لا يعتريه الموت إن هو التزم بما أوصاه به وهذا ما نراه يلوح في النصوص القديمة (إن الله خلق الإنسان خالدا، وصنعهُ على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إليه).(5) أن النزوع إلى الخلود صفة طبيعية عند الإنسان وذلك لأن الله (خلقهُ على صورته).(6) على صورته التي هو عليها الآن ، ولكن متصفاً بصفاته فوهبه العقل والعلم والسمع والبصر والإدراك وحب الخلود.
وغالبا ما يدفع الخيال بالإنسان نحو الخلود أن يستعين إما بكيانات خارقة خارج حدود الطبيعة، أو من خلال الوسائل البيولوجية والعلمية فكان هذا السعي من أهم عناصر الوصول إلى الاكتشافات والتقدم العلمي خصوصا فيما يتعلق بالطب والصحة وفي مجال الأغذية. وهكذا نمت هذه النزعة عند الإنسان منذ إطلالته على هذه الدنيا خصوصا وهو يرى اختفاء من يحيطون به فيُخيفه ذلك و يؤلمه. ولذلك نرى إصرار الإنسان على البحث عن الخلود وكلما تقدمت وسائل العلم لديه بحث اكثر واكثر في العوامل المساعدة على إطالة الحياة ﴿ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ﴾ .(7) فالحرص على الحياة والبحث عن الخلود هو إحساس داخلي عند الإنسان انطلاقا من علمه بأن شيئا في داخله لا يموت بموت الجسد وأن هذا الشيء (الروح) لا ينتمي إلى عالم الفناء.
ولو تتبعنا مسألة الخلود في مخيلة الإنسان لرأيناها تنعكس في مسائل كثيرة أنتجها خياله مثل : ينبوع الشباب وإكسير الحياة ، وعين الحياة. وعشبة الخلود ،التي تجسدت في اقدم الملاحم على الأرض (ملحمة كلكامش).
وكذلك ادعاء بعض الأباطرة والملوك والقياصرة بأنهم آلهة لا يموتون انطلاقا من فكرة الحياة بعد الموت ولذلك يدفنون كنوزهم وعبيدهم معهم ليخدموهم في العالم الآخر. لا بل وجدنا في الثقافة الغربية وكتب الكثير من القساوسة ورجال الدين من ذكر بأن هناك صفقات جرت بين الشيطان والإنسان يمنح فيها الشيطان الخلود لبعض الناس ممن باع له روحه وأصبح عبدا له، وخصوصا كتاب : صفقة مع الشيطان وأسطورة غانيميد . رواية كليفور دي سيماك المنشورة سنة 1963.الذي استعرض فيه أسماء وشخصيات باعوا أنفسهم للشيطان.
ولكن تصور حال كرة أرضية يعيش فيها الناس في خلود أبدي يتناسلون ويتكاثرون ولا يموت منهم أحد.
وأخيرا وبعد تعب الإنسان في سعيه إلى الخلود علم بأنهُ لو حصل على الخلود فسوف يسعى من جديد إلى طلب الموت لكي يرتاح من هذه الحياة المتعبة القاسية ،حياة مليئة بالأمراض والمشاكل والآلام والقلق، خصوصا بعد أن يُصيبه الملل الشديد من طولها، وكثيرا ما شاهدنا وعاصرنا أناس كنّا نتصورهم اسعد الناس ولكنهم انهوا حياتهم بالانتحار وهم في أوجّ المجد والثروة.
الخلود لا يكون إلا في عالم يخلو من عوامل الفناء. ولذلك قيل للجنة : دار الخلود.
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها …*… بصنائع المعروف والإحسان
من نال رفع الذكر عاش مخلدا …*… فالذكر للإنسان عمـــــر ثاني
المصادر :
1- سورة الأحزاب آية : 65.
2- سورة طه آية: 120.
3- سفر التكوين 3 :4.
4- سورة الأعراف آية : 20.
5- سفر الحكمة 2 : 23.
6- حديث خلق الله آدم على صورته ذكره البخاري في صحيحه حديث رقم 6227. ومسلم في صحيحه حديث رقم 2841. وهو حديث صحيح ومتواتر عند القوم.
7- سورة البقرة آية : 96.
https://telegram.me/buratha