كوثر العزاوي ||
لعل أكثر المشاعر الإنسانية وجعًا هي مشاعر الوداع! لإنها الفيصل الذي يُختَبر فيه كل إنسان ليتميز غليظ الطبع من ليّنهِ، وبأي شكل من الأشكال، فالوداع هو الوداع، وهو الجرح الّذي لا يبرأ، ولعل أصعب أنواع الفراق! فراق الأحباب فراق القلوب، فراق الأصدقاء، بل حتى فراق بعض الأماكن ذات الأثر من حيث المعنى في النفوس، تشتعل الجوانح حسرة عند وداعها، فمهما أختلفت المعاني والمسمّيات لن يختلف معنى الفراق والوداع وفي أي مكان وأي زمان، فما أشقّ على العيون حينما تنظر النظرة الأخيرة مودِّعةٌ معالمَ زمنٍ او ملامحَ أحبةٍ، أو مشاهد مقدسة، عندئذ يتوقف الكلام وتبقى أنفاسنا تختنق لتسابق انهمار الدموع، فلانملك عندها سوى بث تمتمات ممزوجة بلوعة الرحيل لتبدو كما النجوى بهمس الذاكرين، ومشت روحي قبل قدماي مُوَدِّعة بيت الله بعد انتهاء مدة الضيافة، وكاد قلبي يفلت من عرينه وانا أولّي مدبرة بعد الطواف سبعٍ والصلاة، فَاثَّاقَلتْ رجلاي وانْهَلَّت دموع الفراق كالجمر فائرة، فرفعتُ كفي للسماء وقد بدت متلألئة بنسيمها العذب الذي يداعب أحاسيس الفراق مواسيًا، وكعبة الله كأنها الكوكب الدريّ تتوسط الكون والناس حولها كأنهم لؤلؤ منثور!! ترى يابيتُ ربي هل هذه نهايةُ عهدِنا؟ فوالله رغم التعب والمشقة والزحمة لكني لااريد أن اغادر كما أشعر وانظر في عيون الآلاف والدمع يتراقص في محاجرها ولسان حالها يقول: لااريد المغادرة والجميع يريد أن يُمَد في وقته ويطيلُ البقاء في هذه البقعة التي تاخذ بتلابيب القلوب، كما للجميع لسان كان يلهج بقلب راجٍ "الهي لا تجعل هذا آخر العهد لي الى بيتك الحرام"، حقًا لستُ قادرة على وصف مشاعر ماأتمنى وصفه في سطور لاتفي الحقيقة للاحساس الأكثر وجعًا، إنها مشاعر الفراق! إذ يشعر المرء معها بالغربة والحزن، وكأن جزءً يُستَلُّ من كيانه! وها قد شارفت أيام الإقامة عتبة الرحيل بعد مضي شهرًا أو يزيد، وها هي الساعات تتصرم لتعلن اقتراب أوان الفراق لأرضِ مَكَّة، بعدما كان اللقاءُ محطة سَكَنِ الأرواح وهدوئها، وتطهيرها من أدران الغفلة والذنوب في أجواء ملكوتية لايرقى إليها إلّا ما كان سنخها من زمان أو مكان!! حيث انطوت مابين رشحات الحب وزفرات الشوق وعمل الجوارح بالطاعات، حتى آن أوان النبض مودّعًا لاراغبًا ولاسئِمًا بل راجيًا العود في قابل الأعوام، والقلب قبل اللسان صادحًا:
{اللهمّ إن هذا البيت بيتك، وهذا الحرم حرمك، وأنا أمتكَ وابنة أمتك وذاك عبدك وابن عبدك، جئتك راجيًا عفوك ورضاك، فاكتب لي دخول بيتك مرات عديدة، واستجب ما كان مني من الدعاء وثبّت عملي بالقبول عندك، وارزقني زيارة حرمك ومسجد النبي صلى الله عليه وآله في كل عام أبدا ما حييت ياارحم الراحمين.
من جوار الكعبة المشرّفة
٢٠-ذي الحجة١٤٤٤هج
٩-تموز ٢٠٢٣م
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha