رياض سعد
( الجنبر او البسطه او البسطيه) : كلمات عامية يستخدمها الناس للدلالة على حجز مكان ما من قبل البائع ؛ كأن يكون رصيف شارع او ساحة عامة او منطقة ترابية او شارع او اطراف الاسواق او الاماكن المقابلة للمحلات ... الخ ؛ فكل من لا يستطيع تأجير محل يلجأ الى ( الجنبر او البسطه ...) ؛ واما شكل البسطة فهو الاخر يختلف اختلافا كبيرا ؛ فالبعض يفرش قطعة من الكارتون على الارض , والثاني يضع عربة او ( ميز) من الخشب او الحديد او الالمنيوم او من الزجاج حسب البضاعة المعروضة والمكان التجاري ... ؛ فهذه الكلمة لها مفهوم مشكك كما يقول المناطقة ... ؛ وهؤلاء الباعة معرضون لأشعة الشمس اللاهبة والحر الشديد والبرد والغبار والرياح فلا شيء يقيهم من المطر او سائر تقلبات الطقس ... ؛ وهذا خيار الفقراء ومتوسطي الدخل ... ؛ واغلب ( جنابر وبسطات ) الباعة في العراق غير نظامية واشكالها ليست جميلة , وموادها عتيقة او رديئة ؛ باختصار شديد هي لا تسر الناظرين ... ؛ و كانت اغلب ( الجنابر والبسطات ) في زمن النظام البائد : عبارة عن فرش بالية او اخشاب متهالكة تعرض عليها الخردة والمواد المستعملة والقديمة – التي تذكر العهد العصملي كما يقول البغداديون – والتي تصدر منها روائح كريهة وعفنة نتيجة لقدمها وسوء خزنها او تلف اجزاءها ... والجنبر قد يوفر القوت اليومي البسيط الكفاف ليس الا واحيانا قد يرجع البائع الى اهله واطفاله بخفي حنين مفلس وخالي الوفاض ... ؛ بالإضافة الى انها تترك بعد اغلاقها كمية كبيرة من النفايات المتناثرة هنا وهناك قرب ( الجنبر) ... ؛ بالإضافة الى انها معرضة للإزالة من قبل دوائر البلديات او امانة العاصمة ؛ ناهيك عن مضايقات الشرطة وابتزازهم ... ؛ وانا هنا اتكلم عن ايام الحصار والعهد البعثي والنظام الصدامي فقد انتشرت هذه الظاهرة في ذلك الوقت واستمرت الى هذا اليوم ؛ ولكن مع مراعاة الفروق الكبيرة بين ظروف الامس الاسود و الوضع الحالي .
منذ بدء تأسيس الدولة العراقية ارادوا للعراق التأخر والتخلف والبؤس والمعاناة وعدم الاستقرار ... الخ ؛ ولا زالت قوى الشر والاستكبار العالمية وقوى الخط المنكوس تعمل على ادامة البؤس في بلاد الرافدين ؛ فبسبب تردي الاوضاع الاقتصادية وندرة فرص العمل وعدم تنوعها وانحصارها في امور محددة سلفا من السلطات الغاشمة والعميلة والفاسدة ؛ لجأ العراقيون الى العمل في ( الجنابر والبسطات ) على الرغم من بؤس المنظر والحالة والتي لا تليق بقامة العراقي وامكانياته البشرية وثرواته الوطنية ... ؛ ولعل نشوء الاقتصاد الشوارعي او الشارعي – ان جاز التعبير – وتمدد نشاط ( الجنابر والبسطات ) ؛ والذي يمثل جزءا من الاقتصاد العراقي غير المنظم ... ؛ انما نشأ نتيجة لسياسات الحكومات الهجينة المتعاقبة الفاشلة والتي همشت واقصت وابعدت فئات اجتماعية كبيرة مما دفعها الى انتهاج هذا النشاط الاقتصادي والذي قد يعبر عن شكل من اشكال المقاومة الشعبية للحكومات الهجينة العميلة الغاشمة ؛ وذلك باعتبارهم مخالفين للقوانين التي شرعها رجالات الفئة الهجينة والتي كانت تمثل لراس الهرم الحكومي مجرد جرة قلم ليس الا .
وكان العراقيون ينتظرون بفارغ الصبر خطابات الفاشل العميل والمجرم الهمجي صدام ؛ علما انها خطابات سمجة وركيكة ومكررة وبائسة وفارغة من اي محتوى حقيقي و واقعي ؛ من قبيل : ( الحزب القائد ... , الرب كما افهمه ... , الويلاد... , عاشت فلسطين ... , الامة العربية المجيدة ... , وكما ينبغي ... , ويا محلى النصر بعون الله ... , وغدر الغادرون ... , وكنا انعفي من المدرسة ونتحفه اني وابن خالي عدنان... , وال يعارضنه انطلع الدم من عيونه... , واطره بيد اربع وصل ... ؛ وحسبما والقيم السامية ومسيرة الحزب ..., ولا تجعل عدوك يمشي خلفك ولا امامك ولا بجنبك واسبقه ... , الخ ؛ ومن هل الخرط ال كل معنى ما بيه ) فكانت خطاباته اشبه بالجفرات او الكلمات المتقاطعة لا تخرج منها بشيء ذي فائدة معرفية او سياسية او ثقافية ... ؛ او تؤثر تأثيرا ايجابيا على ظروف الناس الاجتماعية والصحية والاقتصادية ... الخ ؛ علهم يسمعون خبر رفع الحصار الدولي عنهم ؛ وعندما تخيب ظنونهم كالعادة ... ؛ فإنهم يواصلون بيع حاجاتهم المنزلية والشخصية في سبيل الاستمرار في هذه ( العيشه الكشره ) ومزاولة العمل في ( الجنابر المكسرة ) و ( البسطات الوسخة ) ويفترشون الارض تحت اشعة تموز اللاهبة ... .
فقد كان النظام نظاما فاشلا بمعنى الكلمة ؛ اذ كان لا يمتلك اي رؤية اقتصادية واضحة المعالم ؛ من خلالها يحدد الأولويات والانشطة والفعاليات الاقتصادية والصناعية والتجارية والزراعية ... الخ ؛ فتارة الحياة الاقتصادية تسير وفقا لمزاج ( ابو الهوايش ) المجرم احمد حسن البكر, او ربيب الشوارع المجرم دوحي ابن صبحة حرامية الدجاج , و المجرم عزت ابو الثلج و المجرم خيري حرامي بغداد , والراعي المجرم حسين كامل , والكسيح الشاذ المجرم عدي ... الخ ؛ بالإضافة الى تنفيذ الاوامر والتوجيهات الاجنبية الخارجية المنكوسة ... ؛ لذلك طالما تخبط النظام البعثي البائس بقراراته الاقتصادية ؛ فمرة يمنع هذا النشاط واخرى يسمح ... , واحيانا ينص على وظائف معينة وانشطة محددة ؛ ويرجع مرة اخرى ب إلغاؤها ...؛ وهكذا احتار العراقيون بزمانهم ؛ والاوضاع الاقتصادية بل والعامة : في هرج ومرج ... فلا هو نظام اشتراكي ولا هو رأسمالي ولا هو نظام ( كاوليه ) ... ؛ لذلك قال الخبير الاقتصادي ضياء الحاج رسول حول سبب بروز هذه الظاهرة : (( إن الحاجة وفقر الحال كانا بداية الدافع لاتخاذ الطبقة الفقيرة من الرصيف مكاناً لكسب العيش ، فمرور العراق بحروب متعاقبة وأزمات اقتصادية أدى إلى القضاء على الطبقة المتوسطة، التي انحدرت إلى الفقر، ما دعى حاجة هؤلاء إلى إيجاد عمل خاص لا يحتاج سوى إلى مبلغ بسيط للمباشرة فيه فكانت هذه الجنابر)) .
لذلك عدت ظاهرة الفقر من أكثر الظواهر انتشاراً في العراق ؛ فمنذ تسلم رجالات الفئة الهجينة والى حين سقوط الصنم صدام لم ير العراق خيرا ؛ تصوروا أعزائي القراء : ان البصرة صاحبة الثروات الوطنية الكبرى – ام الخبزة كما يسيمها العراقيون - كانت محرومة من الماء الصالح للشرب طوال عقود حكومات الفئة الهجينة – 83 عاما – ؛ هي بلا ماء ؛ وهذا الامر يعد من ابسط حقوق الانسان ومقومات الحياة ؛ وعلى هذا فقس ..!! .
وسأنقل لكم بعض القصص والحكايات والذكريات التي عاشها وعانى منها اصحاب ( الجنابر والبسطات ) ايام الزمن الاغبر , وفي ظل حكومة قرية العوجة الهمجية ؛ لكي تتضح لكم الرؤية وينكشف لكم زيف مقولات : ( الزمن الجميل ؛ وايام الخير ) :
كان المواطن سعيد حميد يعمل في( جنبر) - عبارة عن عربة من الحديد - لبيع ( لفات الفلافل ) ؛ وكثيرا ما كان يتبرع للجياع آنذاك وما اكثرهم وقتذاك ؛ ببعض ( لفات الفلافل ) ... ؛ وفي احدى المرات جاء جلاوزة الاجهزة الصدامية التخريبية والإجرامية ليقوموا بتدمير ( جنبر سعيد ) ورمي الطعام في الشارع – على الرغم من شحة الطعام آنذاك - .
بعد ان توفى والد المواطنة علية ؛ قام اهل الغيرة والخير من ابناء الاغلبية العراقية بشراء (جنبر وكان عبارة عن منضدة خشبية بسيطة ) وقامت المواطنة علية بعرض بضاعتها البسيطة عليها ... ، واهل الخير ايضا تبرعوا بشراء السلع والبضاعة للمواطنة علية ... ؛ و في احد الايام الغبراء و بينما هي تمارس عملها ... ؛ واذا بوحوش وضباع الامن الاقتصادي ينقضون عليها ويأخذوها مع مصادرة بضاعتها و ( جنبرها ) ... ؛ وهناك في مقر دائرة الامن الاقتصادي تتعرض لشتى صنوف الاهانة والضرب ... ؛ وامروها هناك بتنظيف البناية كما الخادمة ... ؛ ولم يطلق صراحها الا بعد مضي ثلاثة اسابيع لان عمرها كان دون سن الرشد ( 18 عام ) ... ؛ نعم عزيزي القارئ : كان كلاب وضباع الاجهزة الامنية الصدامية يواصلون الحملات تلو الحملات ضد كسبة وعمال وباعة الاغلبية والامة العراقية ولاسيما في دائرة الامن الاقتصادي الاجرامية ... ؛ اذ كانوا يطاردون الباعة المتجولين والذين ايضا يشترون السلع والبضائع المستعملة - ( الدوارة او العتاكة كما تطلق عليهم وسائل اعلام الفئة الهجينة والخط المنكوس دائما ) - من مناطق الفئة الهجينة والطائفة السنية الكريمة والمدن (الراقية) ويصادرون سلعهم ويسلبون اموالهم واحيانا يتعرضون للضرب والسجن فضلا عن استخدام اسوء الألفاظ النابية والعبارات العنصرية والطائفية بحقهم ... ؛ اما اصحاب ( البسطات والجنابر) فهؤلاء معرضون للابتزاز والازالة وقلوبهم على وجل ... ؛ مخافة هجوم زبانية الاجهزة الصدامية المباغت عليهم ..., او اغلاق الورش والمصانع بحجة الشروط القانونية والصحية , او مطاردة اصحاب مكاتب الصيرفة والمتعاملين بالعملة ... الخ ؛ وهكذا تستمر مضايقات الاجهزة الصدامية وعصابات الفئة الهجينة بحق الاغلبية والامة العراقية ؛ بغية التضييق عليهم وممارسة سياسة الافقار الشديد بحقهم ... .
كان البائع ينظر ذات اليمين والشمال خائفا وجلا يترقب ؛ تحسبا لقدوم الامن الاقتصادي ... ؛ و اليكم قصة احد الشباب الملتزمين – عباس محمد – دينيا ؛ وهو صاحب بسطة ... ؛ وهي عبارة : عن قطعة من ( الكارتون ) يضعها على الارض الجرداء لبيع المواد المستعملة ويعمل فيها , ولمدة 12 ساعة يوميا ؛ فهي ملاذه الاخير في عراق صدام عراق البؤس الدائم والعذاب المقيم ... ؛ وكان يردد : ان اللجوء الى العمل الشاق وذي المردود المالي القليل ؛ أفضل لي من اللجوء الى السرقة ( النشل ) أو التسول من أجل توفير القوت لعائلتي ... ؛ ويكمل قائلا : ومع ذلك نتعرض يوميا لمضايقات رجال النظام من بعثية وشرطة وعناصر امن ... الخ ؛ ولا أدري لماذا لا يتفهم هؤلاء والحكومة ظروفنا ؛ وهل يعتقد هؤلاء بأننا سعداء بهذا العمل ( والشمس تلفح بينه والغبار غير خلقتنا ) ؟! ...؛ الا يعلمون انه لا يوجد لدينا خيار اخر وسط هذه الازمة الاقتصادية الخانقة وظروف الحصار القاسية ... .
يعتقد هذا المسكين - المواطن عباس محمد - انه يعيش في ظل حكومة وطنية و طبيعية تشبه حكومات ( خلق الله ) ويطلب منهم ان يقدروا حاله واحوال ملايين العراقيين امثاله ... ؛ ولا يعلم هذا ( المكرود ) ان القدر وتدابير الانكليز والامريكان اقتضت ان يكون هو وامثاله من ابناء الاغلبية والامة العراقية تحت رحمة هذه الضباع الطائفية والعنصرية المتوحشة والمتعطشة لدماء العراقيين الاصلاء فضلا عن نهب ثرواتهم و مصادرة اموالهم وممارسة شتى الاجراءات التي تؤدي الى افقارهم .
اما المواطن عايد غازي والذي يفترش الارض لبيع الاحذية المستعملة ( احذية الموتى وغيرها , هذه تجارة العراقيين في عهد باني مجد العراق دوحي ابن صبحة ..!! ) ...؛ فقد رأيته في احدى المرات وهو يجمع بضائعه من الاحذية المستعملة ؛ استعدادا للهروب والمغادرة بعد ان جاء زبانية النظام ودخلوا السوق ... , كانوا هؤلاء الباعة لا يجنون من عملهم سوى ( تفاليس ) ودنانير معدودة ؛ كي يعودوا الى اهلهم ومعهم كيلو طماطة وكيلو باذنجان فقط لا غير ...؛ وهذا المردود المالي البسيط لا يكفي لتغطية حاجاتهم ؛ ومع ذلك القوات الامنية والحكومية المتعددة - ( والتي هي اكثر من الهم على القلب ) - لا تتوقف عن مطاردتهم وتقييد نشاطاتهم بالإضافة الى مصادرة بضائعهم واموالهم القليلة ... ؛ اضحى التعايش مع المضايقات والمطاردات أمرا مألوفا لديهم ؛ وانطبق عليهم المثل العراقي الشعبي : (جاك الواوي جاك الذيب ) والى متى نبقى نعاني من الواوي الهجين والذيب الطائفي العنصري ؟! .
فقد كان معظم العراقيين من ذوي الدخل المحدود ؛ كما ان البعض يعيشون البطالة المقنعة فدخلهم اشبه بالمعدوم ... ؛ واغلب المواطنين غير قادرين على جمع المال من أجل تلبية احتياجاتهم الضرورية فضلا عن الكمالية ، فتسبب لهم هذا العوز وشظف العيش والتقشف بالكثير من الشقاء والألم النفسي والمعاناة فضلا عن بذل الجهود الجسدية المضنية في بعض الاعمال الصعبة كالحمالة والعمالة وغيرهما ... ؛ حتى لقمة العيش لم تسلم من القمع، مما اجبر بعض العراقيين وسط خيبات الامل للهجرة و البحث عن وطن بديل من أجل لقمة العيش ؛ فهذا الخيار الصعب أفضل بكثير من التمسك بحنين- الى وطن سرقه واستحوذ عليه المجرمون والجلادون - ممتلئ بالأوجاع والذل والقهر وتسلط الهمج الرعاع داخل الوطن .
وقد تحدثت لي إحدى الفتيات العراقيات الاصيلات في وصف حال عائلتها وقتذاك قائلة : (( تتكون عائلتنا من سبعة أفراد ، وأب مريض يعاني من الجلطة الدماغية ، وأم كبيرة في السن وأمية وتعاني من مرض السكر ولا تستطيع العمل ... ؛ ونظراً لكوني الأخت الكبرى فقد وضعت على عاتقي مهاماً كثيرة لأساعد أمي المسكينة ، فنحن لا عائل لنا سوى الله ، ومنذ صغري وأنا أعلم أن أسرتي تعاني من الفقر لكن في الفترة الأخيرة بعد مرض أبي وخروجه من عمله ، وبعد اعتقال اعمامي الثلاثة في سجن الرضوانية عام 1991 عقب الانتفاضة ... ؛ ازدادت حالتنا سوءاً ، وأصبحنا بالكاد نجد لقمة يومنا ، ولولا فضل الله ثم مساعدة الشرفاء والغيارى من جيراننا واقربائنا لما وجدنا ما نأكله ، ولو سألت عن سبب عدم وجود عائل لنا ، فهو لكون والدي مريضاً واخي الوحيد صغيرا , واخواتي ضعيفات الشخصية – خوافات كما يقول العراقيون باللهجة العامية ومن اهل الله - ... ؛ وكنت اخرج يوميا بحثا عن العمل لدى اصحاب المعامل في المناطق الصناعية في بغداد الا ان اغلبهم انذال واوغاد – ( وماكو ب قلوبهم رحمة وما عدهم شرف ونزاهة ) - ؛ وكان اغلبهم من المحسوبين على النظام اما طائفيا او مناطقيا او من ازلام النظام والمقربين للسلطة ... ؛ فعدت ادراجي من دون جدوى ؛ اجر اذيال الخيبة ... ؛ عندها خطرت فكرة في رأسي اذ ذهبت الى السوق وافترشت الارض وصرت ابيع الخضراوات ... ؛ وقد من الله علي من فضله وسارت الامور بصعوبة بالغة ... واكملت اخواتي دراستهن ... ؛ الى ان سقط النظام البعثي والتحقت اخواتي الثلاثة بوزارة التربية وعملن في سلك التعليم والتدريس وعوضنا الله خيرا عن تلك السنوات العجاف والايام المريرة ... )) ... ؛ وعاش الاولاد والبنات الصغار في العراق – ( ايام القائد الشفيه ) - مرارة العوز والحرمان والجوع ؛ فكلما طلب الاطفال من الاباء او الامهات شيئا كأن يشتهي الطفل علبة ( ايسكريم محلي الصنع – دوندرمه -) او قنينة ببسي – تصنيع محلي مضر بالصحة – او بعض الحلوى المحلية الصنع والبدائية ... ؛ اجاب الوالدان بأننا : لا نستطيع الشراء , لعدم توفر النقود الكافية ؛ علما ان الاطفال لا يعرفون معنى لا نستطيع لاسيما وانهم يشاهدون غيرهم يحصلون على ما يريدون ويستمتعون بما يشترون ... ؛ ونقل لي صديقي الاستاذ غسان العنبكي : انه عندما كان طفلا شاهد احد ابناء الجيران وكان والدهم من ازلام النظام وقد سافر الى الاردن ورجع ومعه العاب ليست موجودة في العراق وقتذاك ... ؛قال : فذهبت الى ابي وانا ابكي طالبا منه شراء العاب مثلها ... ؛ وحاول ابي بشتى الطرق اقناعي باستحالة تنفيذ الطلب ... ؛ الا اني لم اقتنع و واصلت البكاء وكأن في اذاني وقرا ... ؛ وكبرت ومات ابي وسارت بنا الايام ولا زال اثر الذكرى المؤلمة غاطس في دوائر اللاوعي ... ؛ واذ بي وبدوافع لاشعورية اقف امام احدى محلات الالعاب واشتري كمية كبيرة منها ... , لأرجع الى بيتي والعب بها مع ابني ؛ علي اعوض ما فاتني من بهجة العاب الطفولة وسرورها ..!! .
بينما روى لي زميل في الوظيفة قائلا : ان والده كان معاقا – لا يستطيع الحركة وسبب الاعاقة حرب العراق مع ايران - ومحال على التقاعد ؛ وكان راتب التقاعد لا يسمن ولا يغني من جوع ... ؛ اذ لا يكفي ربع متطلبات اسرتنا البسيطة ولا يوفر لنا القوت اليومي واسرتنا كانت متكونة من ستة أبناء وبنتين وأم ، وجدة كبيرة في السن، وعمة كبيرة لم تتزوج ، بالإضافة إلى بنت عمي التي اعدم والدها – بتهمة الانتماء لحزب الدعوة – وذهبت امها الى اهلها وقد تكفلت امي بتربيتها وكانت مريضة نفسياً ... ؛ وتعودنا على التقشف والحرمان , اذ لم نعد نطلب من الوالدين اي شيء يذكر ونكتفي بما هو موجود والذي هو اقل من القليل , ولم اعد اتبرم من الظروف او اشكو لأصدقائي لأننا كلنا نعيش نفس الظروف تقريبا , وصرنا نلبس الملابس المستعملة والقديمة والبالية والتي تعيد امي خياطته لأكثر من مرة ... ؛ وخطرت في بالي فكرة واقنعت امي بها ؛ اذ اقترضت امي مبلغا من المال من اخوتها واشترت كيسا من الطحين ... ؛ واشتغلت خبازة فهي تخبز وانا ابيع ارغفة الخبز في السوق مفترشا الارض بعد العودة من المدرسة ... وهكذا سارت الامور – بالدفعات كما يقول العراقيون - .
ونقل لي احد المواطنين البؤساء وقتذاك ؛ ان الشرطة والبلدية قد ازالة ( جنبره ) وطردته شر طردة وكأنه عدو اجنبي وليس مواطنا يبتغي العيش بشرف بعد ان عجزت الدولة البعثية التكريتية الصدامية الفاشلة عن توفير الحياة الكريمة لهم ... ؛ وبعد ان استولى رجال الفئة الهجينة و السراق الحكوميين على ثروات الجنوب والوسط العراقي بل والعراق كله ... ؛ يمر صاحبنا المسكين كل يوم أمام مقر عمله القديم على رصيف شارع بإحدى مناطق بغداد ، ويتوقف لثوانٍ متأملا بأسى تلك البقعة التي كان يفترشها على الأرض ، لا ينازعه فيها أحد من شركاء الرصيف البؤساء الاخرين ... ؛ ويهمهم قائلا : لا حول ولا قوة الا بالله , وحسبنا الله ونعم الوكيل ... ؛ نظام الاجلاف والبخلاء التكارتة كان يستكثر على العراقيين مترين من الارض للعيش بكرامة ومزاولة العمل الشريف والاكل من كد اليد ... ؛ بينما تنازل عن الاف الكيلومترات من الاراضي العراقية العزيزة لدول الجوار ؛ وبدد مليارات الدولارت على الاجانب والغرباء ؛ وحروب الوكالة والنيابة ؛ وعلى الاجهزة القمعية وادامة ماكنة التعذيب والاعتقالات والاعدامات والمقابر الجماعية , وشراء ذمم مرتزقة الكتاب والاعلاميين والفنانين العرب وادعياء العروبة المنكوسين ... .
نعم بعد سقوط الصنم الارهابي والطائفي والعنصري الهجين عام 2003 تغيرت الاحوال فيما يخص موضوعنا نوعا ما ؛ اذ حلت الاكشاك المتنقلة – سيارات نقل او حمل تتحول الى اكشاك متنقلة وذات ديكورات جميلة ومجهزة بأحدث اجهزة الطبخ والكهربائيات ... الخ - ؛ او التفنن بصناعة ( الجنابر) من المواد الجيدة وبأشكال هندسية جميلة , وبعضها يعرض بضائع غالية الثمن جدا او يمارس الصيرفة وبيع الدولار , والبعض يبيع العطور العالمية المعروفة بارتفاع أثمانها ... ؛ وبلغت اسعار البعض منها مبالغ طائلة ولاسيما تلك التي تقع في المناطق التجارية او الراقية كما يعبر عنها ... ؛ بالإضافة الى استقرار الباعة في اماكنهم وعدم مضايقتهم من الجهات الحكومية كما هو الحال في العهد الصدامي البائد ؛ نعم هنالك بعض الحملات الحكومية القاسية بل والظالمة والتي تطال بعض اصحاب ( الجنابر) وباعة (البسطات) بحجة التجاوزات على الارصفة والاماكن العامة من دون رخصة قانونية ... ؛ وقد تشاهد الان منظرين مختلفين احدهما ل ( جنبر ) يبيع الاشياء الثمينة والاخر الذي بجواره او مقابل له يبيع البضائع الرخيصة ( تنزيلات او حاجة ب الف او 500 دينار ) ... ؛ وقد تشاهد الباعة الشباب وهم بكامل اناقتهم اذ يلبسون افخر الثياب الاجنبية والماركة وقد يستنشق المارة من أمامهم أطيب العطور ... .
وبالخلاف عما كان يطلقه العراقيون على ( الجنابر ) سابقا : بأنها مهنة من لا مهنة له , او مهنة الفقراء ... ، صار مختصون وميسورون يتخذونها مكاناً لكسب المال ... ، حيث تتنوع البضائع والأعمال على تلك ( الجنابر ) التي تختلف أحجامها بحسب البضائع المباعة فيها... ؛ اذ تختلف أحجام ( الجنابر ) وفقاً لتخصصها ، فبعضها يصل لنصف متر ، يبيع أصحابها السجائر أو الميداليات الصغيرة وغيرها ، حتى أن بعضهم اتخذها محلاً لصرف العملة النقدية ، فيما يتجاوز بعضها الخمسة أمتار ، تعرض فيها الملابس أو السلع المنزلية والكهربائية وغيرها ، وغالباً توضع البضائع في تلك ( الجنابر) على طاولات نظيفة ... ؛ وبسبب تغير الظروف وشعور البائع بالأمان ازداد الطلب على ( الجنابر ) ... ؛ وقد اصبحت الاسواق والارصفة مزدحمة ( بالجنابر والبسطات ) بحيث يكاد المرء لا يجد مكاناً في الرصيف للسير عليه ، لاستغلاله من قبل البائعين أصحاب (الجنابر ) ... ؛ بل ان ( الجنابر) نافست المحلات التجارية ؛ لكثرتها ووجودها داخل مراكز المدن ووسط المناطق الحيوية ، بحيث سحبت البساط من المحلات التجارية ... .
ويعتقد المواطن البائع كرار طارق : بأن الحظ ابتسم له ورزقه الله برزق جيد ، حين ينتهي نهاره وقد جمع من ( جمبره ) ، الذي يبيع فيه الحلويات ... ؛ ما يمكنه من العيش بكرامة وشراء ما يحتاجه وتوفير مستلزمات معيشة اطفاله ... ؛ بينما يعزو المواطن رحيم حسن سبب تفضيله العمل على ( جنبر ) بمساحة ثلاثة أمتار في سوق متخصص لبيع المواد الاحتياطية للسيارات، بدلاً من شراء محل خاص به ، لا سيما أنه ميسور حال ، إلى أن حركة السوق القوية ( في الجنابر) ؛ هي من تفرض نفسها ، علما انه قد اشترى ( جنبره ) بمبلغ 30 الف دولار ... !! .
والمواطن قيس الهنداوي الذي يملك هو الآخر ( جنبرا) لبيع المكسرات ، في وسط سوق ( الشورجة) التجاري ببغداد ، يقول : إنه لا يستبدل ( جنبره ) في هذا السوق بمحل كبير في منطقة أخرى ، مؤكداً أنه رفض مبلغاً يصل إلى 10 آلاف دولار مقابل ترك الرصيف الذي يعمل عليه... ؛ ويوضح في حديثه - لـ "العربي الجديد"- أن صافي ما يكسبه في اليوم الواحد لا يقل عن 200 دولار ، وهو مبلغ جيد لن يجنيه في مكان آخر، كما أنه وللرزق الوفير الذي يجنيه يساعده ثلاثة عمال يدفع لهم أجوراً يومية ، بحسب قوله... .
ولعل ارتفاع اسعار ( الجنابر) قد ادى الى حدوث العديد من المشاكل ... ؛ فقد تحركت قوة عسكرية كبيرة للتدخل لإيقاف نزاع عشائري بين قبيلتين في بغداد بسبب وجود ( جنبر) امام محل... ؛ وذكرت المصادر الاعلامية ان : قوة عسكرية كبيرة من اللواء الثاني للشرطة الاتحادية تدخلت ليلة امس لإيقاف نزاع عشائري بين قبيلتي شمر وعكيل في منطقة الكمالية بالعاصمة بغداد ... ؛ واضافت المصادر : ان النزاع اسفر عن قتل شخصان وجرح ثالث... ؛ لافتا الى ان : سبب الخلاف كان على وجود (جنبر ) امام محل ...!!
وارتفعت اصوات النخب العراقية والمواطنين الان الى ايجاد حلول ناجعة لظاهرة ( الجنابر ) ؛ فالكثير منها تخلف كميات كبيرة من النفايات بحيث تمتلئ الشوارع والارصفة والاسواق بالقمامة ... ؛ بالإضافة الى انها تشوه معالم المدن وتنشر الفوضى , وتسبب الازدحامات والاختناقات المرورية ... ؛ ناهيك عن شيوع ظاهرة ( النصب الفوضوي والمرافقة لظاهرة الجنابر والباعة المتجولين ) فمن حق المواطن الشعور بالأمان عندما يجري معاملاته التجارية داخل البلاد , و على الدولة معالجة ظاهرة "النصب الفوضوي" ؛ و واجب على الحكومة حماية المستهلك العراقي من الاضرار المحتملة التي قد تتركها بعض انواع السلع والبضائع المحلية والاجنبية المستوردة ان كانت غير خاضعة للضوابط والمعايير الدولية والصحية والقوانين الوطنية والتي تباع في ( الجنابر والبسطات ) .
و ان المطلوب الان من حكومات العهد الديمقراطي تنظيم هذه الظاهرة ؛ بعيداً عن منطق الازالة و( التكسير والتفليش ) والمطاردة وقطع ارزق المواطنين ( المكاريد ) ... ؛ لان هذه الاجراءات سوف تؤدي إلى تعميق الأزمة الاقتصادية للبلد... ؛ بل يجب على الحكومة ايجاد بدائل حضارية و توفير فضاءات واسعة ومنظمة وجميلة تقدم للباعة اماكن آمنة وملائمة للأجواء والطقس لممارسة عمليات البيع والشراء فيها ... ؛ وذلك من خلال تزويدهم بسيارات او عجلات ملائمة ومناسبة وذات تكلفة واطئة واقتصادية من حيث استهلاك الوقود او كثرة العطلات ... الخ ؛ معدة لهذا الغرض : اي لبيع السلع والحاجيات المنزلية و اللحوم والخضروات والمواد التموينية مثلا ؛ وفق خطة مدروسة و منظومة تنموية جديدة تستوعب هذه الفئات العراقية ؛ بدلا من مطاردة الشرطة لهم. ... وهذه الرؤية الوطنية والتنموية والانسانية افتقدتها حكومات الفئة الهجينة قاطبة وكذلك تفتقدها الدولة العراقية حاليا ....؛ لاسيما و ان الفئات الشعبية وغيرها تتجه إلى هذه الأسواق لأنها تجد سلعاً ربما أقل جودة لكنها بأسعار في المتناول .
وفي ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالعراق يبقى من غير المؤكد ما إذا كانت السلطات المحلية والحكومة المركزية ستتحرك بسرعة لمعالجة هذه الظاهرة بطرق أخرى أكثر سلاسة ومرونة وتعود بالفائدة على الوطن والمواطن ... كما هو الحال في ارقى دول العالم بل وبعض الدول المجاورة .
والشيء بالشيء يذكر : كلنا سمع وشاهد ان البائع التونسي المتجول محمد البوعزيزي - (26 عاما) – والذي اقدم على إضرام النار في نفسه في 17 ديسمبر 2010 بسبب مضايقات الشرطة له ومصادرة بضاعته ... ؛ مما ادى لاندلاع الثورة التونسية و التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي وتلتها انتفاضات الربيع العربي ... ؛ لذلك قيل : ( قطع الاعناق ولا قطع الارزاق ) ...؛ فالمواطن الذي لا يقدر أن يؤمن قوت يومه وقوت عياله في وطنه ؛ففي هذه الحالة قد يصبح الوطن منفى وسجناً وقيداً ... ؛ مما قد يدفع المواطن الى انتهاج طرق غير مشروعة للإيفاء بالتزاماته العائلية او تلبية لمتطلبات المعيشة ... او الانخراط في مجاميع الجريمة المنظمة او الارهاب او العمالة وخيانة الوطن ... ؛ وقد قالها حكيم العراق الامام علي : (( الفقر في الوطن غربة )) وجاء في المثل العراقي الشعبي : ((الشهر المالك بيه خبزه لا تعد ايامه )) وعليه من اهم واجبات الحكومات العراقية الوطنية توفير مستلزمات العيش الكريم للمواطن العراقي .
https://telegram.me/buratha