كوثر العزاوي ||
لعل أكثر المشاعر الإنسانية وجعًا هي مشاعر الوداع! لإنها الفيصل الذي يُختَبر فيه كل إنسان ليتميز غليظ الطبع من ليّنهِ، وبأي شكل من الأشكال، فالوداع هو الوداع، وهو الجرح الّذي لا يبرأ، ولعله أصعب أنواع الفراق! فراق الأحباب فراق القلوب، فراق الأصدقاء، بل حتى فراق بعض الأماكن ذات الأثر في النفوس، تشتعل الجوانح حسرة عند وداعها، فمهما أختلفت المعاني والمسميات لن يختلف معنى الفراق والوداع وفي أي مكان وأي زمان، فما أشقّ على العيون حينما تنظر النظرة الأخيرة مودِّعة معالمَ زمنٍ او ملامح أحبة، تختلط مشاعرنا بالبكاء والانين، لحظة يتوقف عندها الكلام وتجعل أنفاسنا تختنق، فلَسْنا
قادرين سوى بث تمتماتٍ تبدو كما
النجوى بهمس الذاكرين،
ومما لايخفى، أنّ في الحياة محطات كثيرة، ومع كل محطة وداعٍ نشعر معها بالغربة والحزن، وكأن جزءً يُستَلُّ من كياننا، وقد يبقى ذلك المثكول يؤازر نفسه ببعض الهمس والآهات التي لايعلم هل تواسيه أم تزيد من حزنه! وهو يعلم ان لااحد يفقهُ كنهَ حزنه ليخفف عنه آنذاك!
أما الحديث عن مشاعر الوداع لشهر الله الذي انطوى كما الشهقة والزفرة هو حديثُ وجع الروح والمعنى، كلما شارفت أيامه عتبة الرحيل! مايعني فقدان السند والحصن والناصر والمثبّت والملهِم! فكل هذه الخصائص تجعل من المؤمن مثكول مصاب بأعز مَن تعلّق به في أيام معدودات، حملت بين طياتها معاني الملكوت المتجلّية في اسحاره ولياليه، وسِحْر ليلة القدر، وماأدراك ماليلة القدر! ذات البهاء والسلام والخير الكثير والأمل الوفير، وهي عند الله خير من ألف شهر!! فلاعجب أن تلحّ مشاعر الفقد والوحشة برحيل شهر رمضان لتسبب كل هذا الاعتصار والانقباض، والروح لم تفتأ تداوي جروحها، وتكبح جماح النفس التي راهنت عليها رغباتها وقمعت شهواتها، وما بين رشحات الحب وزفرات الشوق، إذ تباغت الايام خلوتها لتعلن انقضاء مدة اللقاء!! فوالله إنها محنة روح سكرى ومشاعر نشوى، وإحساس ضاغط لايرقى له أي احساس!! فلاغروَ! ونحن نلمس ذات الاحساس بل أقوى واسمى، حينما نقرأ نبضَ خيرة الخلق "الإمام المعصوم مبيّنًا خير شهر الله وفيوضاته فيقول:
{وَقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشّهْرُ مُقَامَ حَمْدٍ، وَ صَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُورٍ، وَأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ}
وقد ودّعه وداع عزيز يعزّ عليه مفارقته ويستوحش بالانصراف عنه وهو يقول:
{فنحن مودّعوهُ وداع من عزّ فراقه علينا، وغمّنا وأوحشنا انصرافه عنا، ولزِمْنا له الذمام المحفوظ، والحرمة المرعية، والحق المقضي،السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان}
ومن هذا المنطلق، ترسخت مشاعر الحب في نفوس المؤمنين لمعرفتهم قدره وجليل شأنه فعاشوا محنة رحيله وصعوبة مفارقته! ولطالما شكّلت لياليه وساعاته منعطفًا كبيرًا في حياة أحدنا ممن غفِل أو جهل او قصّر او أغواه الشيطان فوقع في شراكهِ بمعصية أو ظُلْمِ احدٍ او قصّر في حقٍ من حقوق والديه أو اهله او المؤمنين، فكان شهر الله هو الفرصة الذهبية الثمينة والنجدة، لتدارك كل ذلك بالتوبة والعودة الى ساحة رحمة الله ومغفرته لتكون الخاتمة حسنة مع أوان رحيله.
نسأل الله تعالى أن يكتبنا وإياكم ممن أُسعِدَ في الشهر الفضيل برعاية حرمته، ونعوذ به أن نكون ممن شقى فيه وحُرِمَ فضله وخيره وبركته إنه سميع مجيب.
٢٨-رمضان١٤٤٤هج
١٩-نيسان٢٠٢٣م
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha