المقالات

هكَذَا تَصْنَعُ الْـمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا..!!


كوثر العزاوي ||

 

كفى بنا فخرًا، أنّ كتاب نهج البلاغة هو من تدوين إمامِنا سيد الموحّدين وإمام المتقين، وكفى بنا عزة أنه الموسوم بالقرآن الناطق، إذ خُطَّ بمداد التوحيد ويراع الصدق، ليرسمَ لنا خارطة النجاة على سارية الزمن، حتى أضحى عِدلَ القرآن الكريم فيُبيّنَ لنا الدستور الأكمل عن أعظم نظام للحياة المادية والمعنوية، وأسمى كتاب لتحرير البشر من الرقّ والعبودية، بل وأرقى وأسمى منهج للنجاة من الشبهات يضم التعاليم المعنوية والحُكمية، وفيه بيان علوم الكون والخلق وتبيان النشأة وماوراء الموت وغير ذلك من المعارف بما فيها من الإحاطة والبيان! ولعلّ أبرز مصداق حينما

نقف على ساحل خطبة المتقين الزاخر لنغترف منه غرفة، ثمّ لينظر أحدنا أين هو من ذاك البحر الذي خاض غماره همّام متعمّدًا حتى خرَّ صعِقًا عندما اقترب من مرسى صفات المتقين في حضرة أمير المؤمنين، فلنتأمل!!

-روي أنّ صاحبًا لأميرالمؤمنين"عليه السلام" يقال له همّامٌ كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أميرالمؤمنين، صف لي المتقين كأنّي أنظر إليهم. فتثاقل عن جوابه، ثمّ قال"عليه السلام": يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَ{إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه. قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ "صلى الله عليه وآله وسلّم"ثمّ قال "عليه السلام":

{أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْـخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّةُ لا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.

فَالْـمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَـهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْلَا الأجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِم لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْـخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْـجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ.

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَـهُمْ رَبُّهُم.

أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أوْسَاطِهِمْ ، مُفْتَرِشُونَ لجِباهِهِم وَأكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ، وَأطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.

وَأمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أبْرَارٌ أتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الْـخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ! لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ،فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، وَحَزْماً فِي لِينٍ، وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ، وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وَعِلْماً فِي حِلْمٍ، وَقَصْداً فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ ، وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ، وَطَلَباً فِي حَلَالٍ، وَنَشَاطاً فِي هُدًى، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ، يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ، يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لِـمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لايَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لا يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَـلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ، الْـخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ، إنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ. فِي الزَّلاَزِلِ وَقُورٌ، وَفِي الْـمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ. لا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ. يَعْتَرِفُ بِالْـحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ. لا يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلا يُنَابِزُ بِالألْقَابِ، وَلا يُضَارُّ بِالْـجَارِ، وَلا يَشْمَتُ بِالْـمَصَائِبِ، وَلا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الْـحَقِّ، إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ. نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. أَتْعَبَ نفسه لآِخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ..

قال: فصعق همّامٌ "رحمه الله"صعقةً كانت نفسُه فيها، فقال أميرالمؤمنين "عليه السلام": أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: هكَذَا تَصْنَعُ الْـمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا!!

 

ليلة ال-١٣من رجب۱٤٤٤هج

٤-شباط ٢٠٢٣م

 

ــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك