المقالات

متى تربح الجغرافيا ـ متى يخسر التاريخ ؟! العراق وثنائية الربح والخسارة  -


علي عنبر السعدي ||

 

التاريخ هو فعل الإنسان في الجغرافيا، وأهم فصوله ، تلك الممتلئة بالصراع والمعارك والمؤامرات ،وما يرتبط عموماً بالقادة والملوك ، فهم محور الفعل ومركز الحدث التاريخي ،فماذا نقرأ من بدايات التاريخ سوى ما كتب عن جلجامش وعظمته ، وأعمال أوركاجينا وأورنمو وحمورابي ونبوخذ نصر، كذلك ملوك آشور كسنحاريب وأسرحدون وبانيبال وغيرهم من الملوك.

أما في الأمم الأخرى ،فأعظم تاريخ للإغريق ، هو ما صنعه طغاتهم ، من طاغية سيراكوزا ، إلى الإسكندر المقدوني ،كما ظهرت أبرز انجازاتهم الفلسفية والأدبية ،في عهود الطغاة كذلك ،فيما يدور التاريخ الروماني حول نيرون وإحراقه لروما ،وكاليغولا وتهتكه ويوليوس قيصر وفتوحاته ، أما تاريخ فارس ، فظهرمع سير الفاتح  قورش والخاسر داريوس ،والملك المجنون قمبيز ، وصاحب الإيوان كسرى، في حين لايكاد يُذكر من التاريخ المصري سوى مافعله الفراعنة .

وأعظم فصول التاريخ الروسي ، ما سجلها بطرس الأكبر وايفان الرهيب وكاترين  ، وصولاً الى العصر الحديث وما تركه لينين وستالين وسواهم .

وفي فرنسا وبريطانيا وألمانيا ،كان تاريخ لويس الرابع عشر والوزير الداهية ريشيليو والقائد الإمبراطور نابليون بونابرت هي الفصول الأكثر تجلياً في التاريخ الفرنسي ، فيما يتباهى البريطانيون بملوكهم المن هنري الثامن إلى ادوارد إلى اليزابيت ، وبقادتهم الكبار كرومويل  ولينغنتون ومونتغمري وسواهم ، فيما بسمارك وهتلر وروميل وآخرين ، في المانيا .

 وإذا كان التاريخ هو الفعل في لغة الزمن ، فإن الجغرافيا هي المفعول به ، فالتاريخ في موقع الظالم ، فيما الجغرافيا في موقع المظلوم ، لكن المفارقة ان الجغرافيا كانت تنتصر مع انتصار الطغاة ،وتخسر بهزيمتهم ،أما التاريخ ، فهو (منتصر) في الحالتين ،رغم انه مجرد شاهد سلبي على الأحداث ، من دون ان يلعب دوراً في حصولها ، فيما تشارك الجغرافيا بفعالية في صنع الحدث والتأثير فيه.

أول انتصار سجّلته الجغرافيا ، وقع بالعراق في عصور ما قبل الميلاد ،ك حينما اكتسحت جيوش الأكديين ،المناطق شرقاً وغربا وفرضت سيطرتها على مساحات شاسعة ، ثم استمر ذلك أيام الآشوريين والبابليين ، أما أول هزيمة للجغرافيا العراقية ، فكانت حين سقطت بابل بيد كورش ، واستمرت مفاعيل الهزيمة أزمنة طويلة ، قبل ان يعكس التاريخ أحداثه لتبنى بغداد قريبة من بابل ، وتصبح مالكة لجغرافية هائلة الاتساع ، أما الخسارة الأعظم للجغرافيا، فكانت في عهد صدام حسين .

حافظت الجغرافيا العراقية على غزارة مياهها وخصوبة تربتها ونضارة حقولها وكثافة نخيلها ،كما سيطرت على أتربتها وصحرائها وغسلت أملاحها ووضعت قوانين لتنظيم حياتها، طوال أكثر من ستة آلاف عام من عمر الحضارة العراقية ،الا أنها بدأت تفقد كلّ ذلك ، ما ان تسلمّ أشرس طاغية عرفته الجغرافيا العراقية ، فقد ابتدأ عهده بتجفيف مياه الأهوار التي طالما شكّلت سدّاً طبيعياً أوقف زحف التصحر وحجزه بعيداً عن حقول العراق ،ثم أعلن حرباً على ساكنيها ، بعدها سيق مئات الآلاف من الشباب ،لخوض حروب خلخلت التربة بانفجاراتها وطحنت الأيدي التي كانت ترعى الأرض وتزرعها ،كذلك قطعت رقاب ملايين النخيل لتوضع أسقفاً للخنادق الحربية ، وما تبقى من النخيل قتله الإهمال .

كما دخلت الأنهار شيخوختها ، بعد أن وجدت بعض دول الجوار ظروفاً ملائمة لخنقها ،وما كادت الحرب الأولى تنتهي ،حتى اندلعت حرب ثانية أشدّ قسوة ،وفيها تلقت الجغرافيا العراقية أطناناً من القنابل والصواريخ ، ما لم تشهده أوربا طوال الحربين العالميتين ( الأولى والثانية ) ،ثم استلزم الطاغية غزواً خارجياً للإطاحة به ، فكان ان التربة تخلخلت فهاجت الأتربة ، وطفت الأملاح فاكتسحت الخصوبة ،ثم اقتطعت أطراف أخرى وضمّت إلى كيان مجاور ،لتلوى ذراع العراق بعدما سجلت الجغرافيا العراقية نكبتها الكبرى.

لكن العراق ، سيهدي التاريخ فصول انتصار، ويهدي الجغرافيا فصول بناء واعمار- وسيهدي شعبه فصول ازدهار ،فذلك ماكان طوال أزمنته ، الموغلة في الأزمنة .

 

ــــــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك