هل كانَ حـلمـاً أَم واقـعاً؟ فَجأَةً رَسَتْ أَقدامي في أَرضٍ سوداءٍ بمكانٍ أَشبَه بغابةٍ مظلمَة، لم يَكن فيها مصدَر للضوءِ غير نصف قمَر، أَعمدة دخانٍ تتصاعدُ لِرَمادِ جَمرٍ حَديثُ الانطفاء، جذوع نخل محتَرقةٌ حَدّ السواد، لا يوجَد صوتٌ غير صوت أنفاسي المتعَرجَة صعوداً ونزولاً، باتً يُخيفني أَكثر من صوت دقات قلبي المتسارعة! حتى بُعدُ نَضَـري لَم يَتعَداني خفتُ أن يَذهَب بتمَردٍ إلى زوايـا بَعيدَةً فيرتدُ إِلَيَّ طَرَفَي بأنكِسـارٍ، يَحمل بعضَ التَساؤلات عن هذا المكان المجهول، رغم فظاعَـة الخراب حولي كانَ خَراب داخلي أَعظَـم، تَعبت أقدام أفكاري ذهاباً وعَودَةً بَينَ حقيقة وَوَهم، حلمٌ وَيَقظـة، أَرهَقَتْ نفسي التَخمينات عن الغَيرِ مَعلوم، هل يا ترى هذا وطَني؟ أَعوذُ بالله أَلفَ مَرَة أن يَكونَ هوَ . ظَلامٌ يتداخَلَ بظَلامٍ، شرائِط الهَواء البارد أَحرقتني بمرورها حولي، تَسَمَّرتُ بمكاني تجَمدَت رقبتي عَن الاستدارَة، حتى قِلادتي وقَفت بالضِدِ مني وَخربَشَت ميداليَـة القَلب المَفطور مَذبَحـي حينَ توتَرَتْ أنفاسي، كأَنَّ أطرافي الأَربعَة رُبطت بِسَلاسل حَديدية كانَت بثقل مرساة على جَسَدي، شَدَتني الى الأَسفل فأَثقَلت رأسي قبل أجزائـي . ما كُنتُ أُريد التَحرك فضولاً لِأَكتَشف المكان حَولي بِقَدر أَن أُغَير من أَلَـم السَكينَة وَجمودُ أعضائـي، كم أَفزَعَني صوتُ تكَسر أَوراقَ الخَريف الصَفراء تَحت قَدمي عِند أَول خطوَة، مَشَيتُ خطوات قَليـلَة حَسبتَها أَياماً من العُمـر، رأَيتُ أَشياءً غَريبة ما كانَت على خاطِرٍ أحَد، دِماءً من غَيرِ جَسَد! التهَمت الوحوش اللحم والعَظمَ معـاً! طيوراً جارِحَةً سوداء شَرِسَة بعيونٍ جادِحَة تَتَصـارَع مَعَ بَعضَها البَعض لأسبابٍ مَجهولَة، فجأَة هَجَمت جيوشُ النَمل الجائِعَةُ نَحوي لم يوقِفها سَحقَ سُلَيمان وجَنودَهُ ولا طاوَعت كَلام النَملَـةَ النَصوح، اختَبأتُ خَلفَ جِذع شَجرَة جَرَّحَ العاشقون جَسَدَها بحروفِ أَسمائِهـم، حَمَلَت وعودَهُم وذكراهُم سنينَ طَويـلَة جمَّعَتهُم حولَها بينما تَفَرقوا هم بالحقيقَـة، رأَيتُ من خَلفَها غراباً يَدفن أَخيهِ مَيتاً، وأنساناً يَأكُل لَحـمَ أَخيهِ حَياً! أُصِبتُ باللآشعور من هذا الموقف انطَفأَتْ روحي كَما مَلامحي احتَرتُ مابين أَن أَنساهُ أو أَنسى نَفسي فأَنسآني! رَأَيتُ فِرقَةً يَرتَدون الأَكفان ويَتَشَبثونَ بالحَيـاة! بتَناقُضٍ غَريبٍ اجهَضوا من رأسَهم كَلَ أَمـرٍ حَكيـم، لَو تَمـَهَلوا قَليلاً لَكانَت الولادَةُ الجَديدَةَ تَسرَّ الصَديقُ وتُغيضَ الغَريبْ، وَهناكَ قَومٌ آخَرون بالضدِّ من أَفكارَهُم وَخياراتَهم يَقفونْ، وَما بَينَ التَجاذب وَالتَنافـر ضاعَت الأَوطان! كان المَكانُ مَليئاً بأَلغامٍ على شَكلِ أَفواهٍ تَتَكلـم شَيءً مِن الـ (مَعَ ) وَأَشياءً مِن ( الضِدّ )، وبَين أَخبار الأَحداث وَإعلام الكَذب والصِدق نَفَـسٌ بَغيضَةٌ شامِتـة، تَذرُّ بارود الكَلِمات بالعقول الساخنَة المُندَفِعَـة فَتُفَجـر العَداوَةَ والبَغضاء والفتنَة المُفتَعَلـة، لا يَهم جهاز التَحَكُم عَن بُعدٍ إلى أَيـنَ تَؤول الأمور أو كَيفَ تَقتتِلُ الجموع . اقتَرَبت مني العَقارب السامَة استَهّدَفَت أَقدامي الحافَيـة، كم تَمنيتها لو كانَـت بساعَـتي لَرجَعتُ بها الى وَقتِ ما قَبلَ فَواتِ الأوآن! يُقال أن الأحلام بالعادَة مهما طالَت أَحداثَها هي مُجَرَد ثواني بتوقيت اليَقِظَـة وَالواقِع، ما بالَ حُلمـي لا يُفارِقُنـي مَتى أَصحوا منه لِأَجِد فنجانَ قَهـوَتي وقَلَمي وَأَوراقي أَمامي؟ مَتى تَرجَع الروحُ إلـى الجَسَد؟ فأَتَعوّذُ باللهِ من هذا الوَهَـم . وَمَعَ سرعَةُ الأَحـداث بالدَمار وَالخَـراب صُرتُ أَبحَثُ عَـن أَمان، تَوارى لي من بَعيدٍ ذلِكَ الجَبَـل العَظيـم رَكَضتُ إلَيـهِ لِأَستَبق الخَيـرات، وَآوي إليهِ لِيَعصُمني من شَرِّ العِباد، وَغَدر الزَمان وَوحوش السلطَة وَالمال، وَخوفي من المجهول في هذا المَكان، بَدأَ بالوضوحِ أَمامي كُلما اقتَرَبت منه، تَشَكلتْ خيوط الثُلجُ على سَفحِهِ تماماً كما لِحيَته، نَقاءَ هامَتَهُ السَوداء لم تَصِلها شَمساً ولا زمهَريـرا كَعمامَتَهُ الشَريفَة، انحنـاءَ ظَهرهُ أَطالَ من قياسِ عَباءَتَهِ الطاهِرَة، تَمَسَكتُ بَخَيطها ما إن وَصَلت إلَيهِ لِتَطمَئِنَّ روحي وَراحَتي، كانت أَجزاءَهُ تَتَهاوى وَتَتَـصَدع من حِمل الهموم والأَفكار، ما بَقيَّ لي إلّا أَن أَرجوهُ بالدُعاءِ إلـى الله من فِتَنِ الدَهـرِ والنائبات
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha