كوثر العزاوي ||
إنّ كلّ مايرِد عن المعصوم من قول أو رواية تُقرّر فعلًا أو إنجازًا ما، فهو يمثّل في مُجمَلهِ دروسًا سلوكية هادفة، وإذا ما عدنا إلى كلماتِ صاحب الذكرى في مثل هذه الأيام الإمام الحسين "عليه السلام" التي أطلقها قبل نهضته وبعدها، فإننا نلمَس الأثر الواضح الذي لابد أن يتركه في حياتنا دروسًا عملية وعِظات، ونحن نشعر بالغبطة والاطمئنان، وقد يأخذنا الزهو أننا ما دُمنا حسينيين سائرين على نهجه "عليه السلام"، فلا نَعُد نبالي إن أوذينا أو حُرمنا أو قُتِلنا كما قال"عليه السلام":
{موتٌ في عِزٍّ خَيرٌ مِن حَياةٍ في ذُلٍّ}
ولكن ياترى! هل حصل الوصول فعلًا ؟! دعونا نرى أين نحن عن الدروس التي أهملناها واقتصرنا على التأثر حالة الانفعال وحسب!!!
فقد عبّرت كلمات الإمام الحسين "عليه السلام"عن دلالات عظيمة ومتنوعة، تضمنت دروسًا قيّمة في الأخلاق والمعرفة نتحسس من خلالها التحرّر من عبادة غير الله تعالى، والشجاعة في قول الحق، سيما وهو يذمّ الدنيا وعبيدها، حينما يصوّرها بعين البصيرة عازفًا إذ يقول:
{إنّ هذه الدنيا قد تغيرت وتنكّرت وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يُعمَل به وأن الباطل لا يُتَناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً، وإنّ الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محِّصُوا بالبلاء قلَّ الديّانون}
هكذا هي الدنيا في نظر إمامنا الحسين"عليه السلام" وقد بيّنها لنا خاصة نحن شيعتهم الذين ندّعي حبهم وولاءهم، وكأنّي به يقول: ياشيعتنا يامحبينا إن مايجري علينا لابد أن يجري عليكم في قابل الدهر وقادم الأيام!! فتلمّسوا آهات إمامكم في حروفه واجعله منها قبلة إذ يقول:
{وأن الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلا صُبابة، "والصُّبابة بالضم: هو مايبقى عادة في قعر الإناء من الشراب" وخسيس عيشٍ: بمعنى العيش الدنيء، والمرعى الوبيل: أي البستان الذي أصابه الوباء والقحط فلم يَعُد يُثمر، ترى أيّ مشهدٍ يُعرَض في بيانه "عليه السلام" والأحرار في غفلة عن هذا!! {الحق لا يُعمَلُ به وأنّ الباطل لا يُتَنَاهى عنه}، أفهلْ غير هذا ماجعل إمامنا راغبًا في لقاء ربّه زاهدًا في دنياه!! إذ لاقيمة للحياة إذا كانت في ذلٍّ وهوان أينما تفشى هذا الذلّ وحلّ الهوان، فلاينبغي للعزيز أن يصبر دون أن ينتصر للعزة والكرامة التي خطّت معالمها السماء ورسم طريقها آل محمد "عليهم السلام"
أجل!! إنّ ما دعى إمامنا الحسين "عليه السلام" للإفصاح عن رغبته بالشهادة ورفع شعار الخلود،
{فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما} مع علمه الجازم بما سيحصل له من ظلم وسبي وتقطيع مع قلة الناصر، وتخاذل الأمة عن نصرة الحق معه!!
إلّا ليثبّت لشيعتهِ زيف الدنيا، وإنّ الدار الآخرة للمتقين!! وحريّ بمَن يرفع راية الحسين ويقيم عزاءه ويُحيي ذكرى استشهاده، أن يهتدي بهداه ويحفظ أول وأهم درس قابل للتطبيق والإمضاء والوقوف عنده طويلًا قبل فوات الأوان، وهو"حب الدنيا" لينأى الحسينيون بعيدًا عن عبادة الدنيا وليترفّعوا عن الملذات والرغبات والأهواء الزائلة، فالدين هو الغاية والمقصد، وليس وسيلة وأداة يتخذها البعض للوصول إلى مآربهم ومصالحهم الشخصية، فمَن جعل دينه مطيّة بلوغ منافعه والهوى ، فقد هوى وتخلّف عن الحق ومَالَ إلى الباطل وأستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، وخرج عن دائرة الحرية، لأنّ الإنسان حينما يتحرر من هوى النفس، يكون مخلصًا لله تعالى فقط، عندئذ يتنسّم شذى المعنى الحقيقي للحرية، ويدرك مراد الامام الحسين "عليه السلام" يوم عاشوراء
{كونوا أحرارًا في دنياكم} هي كلمة لكل من يُؤثِر العبودية لغير الله ويتخذها منهجًا ويرتضي أن يكون عبدًا للظالم ، خلافًا لفطرة الله التي فطر الناس عليها أحرارًا من كل قيود تكبّل حريته وعقله ، ثم ينحدر الى قاع الرذيلة ، فيصبح منقادًا لأطماعه وشهواته ورغباته المنحرفة.
{..أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }محمد ١٦
٧-محرم١٤٤٤هج
٦-٨-٢٠٢٢م