موجة عالمية لتراجع حاكمية السياقات والمؤسساتية والديمقراطية لمصلحة "واقع الحال"، والتي ستستمر لحين استقرار توازن ونظام جديد. واحداث اوكرانيا شاهدة. تقول الصين، فقدت كلمة "المجتمع الدولي" معناها. وقال قديماً "كيسنجر" بان المعاهدات والاتفاقات تصبح اوراقاً عديمة الجدوى، عندما تنقلب التوازنات. وما يجري عندنا جزء من هذه الظاهرة، فعدا العوامل الخارجية، اين تغيرت الموازين داخلياً؟
منذ التاسيس الاول، نُظمت السياقات -اساساً- كانعكاس لتدافعات النخب الفوقية. خصوصاً بعد تمكن الدولة من المجتمع والاستقواء عليه. يذكر المرحوم نوري السعيد في كتيب "محدود التداول" بين كبار رجالات الدولة انذاك، بان المرحوم الثائر وقائد الثورة الكبير الشيخ عبد الواحد آل سكر زار الملك في بداية الحكم، واستقبله الاخير بحفاوة واحترام كبيرين. وبعد مغادرة الشيخ، سأل احدهم الملك عن سبب الحفاوة رغم بساطة المظاهر المحيطة بالشيخ. فاجابه الملك، ان وراءه (120) الف بندقية، والدولة لا تملك سوى (20) الف بندقية. فمالك القوة المجتمعية او الفوقية سيمتلك الامور، ويكيف شكلياتها. لهذا اعطيت اولوية عظمى في مرحلة التأسيس -باشراف سلطات الانتداب- لبناء مصادر القوة القادرة على مواجهة احداث كثورة العشرين، او لضبط المجتمع وما كان يسمى باعمال "الشغب" في الجنوب، و"التمرد" في الشمال. فتحولت العسكراتية الفوقية (خلال المرحلتين الملكية والجمهورية) الى حاضنة رئيسية للعملية السياسية، وتداول السلطة الذي كان يتم غالباً بطرق قسرية. بالتهديد بها، او عبر الانقلابات العسكرية الدموية.
ورغم الانتقادات لدستور 2005، لكنه اطلق حريات واسعة، (وغالباً فوضوية). فما يسميه البعض بـ"الانسداد السياسي" اليوم هو نتيجة لتحرر (انفلات) المجتمع وقواه من كثير من الضوابط السابقة. فلم تعد التغييرات مجرد تدافع النخب الحاكمة، بل اصبحت حراكاً مجتمعياً وشعبياً واسعاً. فنمت اثقال كبيرة خارج منظومة الحكم والمؤسسات الدستورية تفعل فعلها في قولبة القرارات. لتُحدث توافقات/انقسامات فوقية تعكس قوى ووقائع واثقال مجتمعية/قاعدية لم تستقر ثوابتها وتوازناتها بعد. اثقال لها "مسببات وجود" مشرعَنة وغير مشرعَنة، نافعة وغير نافعة، صاعدة وهابطة، بعضها قديم، وبعضها جديد. اثقال كالمرجعية الدينية العليا، وكذلك بقية المرجعيات، والتيارات المجتمعية العميقة، والاغلبية السكانية الشيعية، والحقائق الجغرافية والديموغرافية، والقضية الكُردية، والثقل السني تاريخياً واقليمياً، وتواجدات وتأثيرات المحيط الاقليمي والدولي، واالحشد والبيشمركة واالفصائل، والمعارك ضد الاحتلال والارهاب والتطبيع، الخ. فما يتصارع اليوم ليس "الاطار" و"التيار"، او "البارت" و"الاتحاد"، او "السيادة" و"منافسيهم"، الخ، بل تتصارع وتضغط الاثقال على تلك العناوين والنخب لتدفعها بهذا الاتجاه او ذاك. فان اغفل طرف حساباته، فسترتد قاسياً عليه وعلى الجميع.
لنأخذ "تشرين" كثقل فرض استقالة الحكومة والانتخابات المبكرة بنتائجها الراهنة. "تشرين" جوهرها مطالبات شعبية/وطنية مشروعة، حاولت اطراف داخلية/خارجية استغلالها لاشعال صراع شيعي/شيعي. إنهار جزء مهم من الجانب الاجنبي. واستثمر الجانب الوطني، العملية الانتخابية. فخاض غمارها وفاز (وخسر). ومن رفض الانتخابات لم ينقطع، بل مد جسور التواصل. فالاثقال حاكمة وتفرض نفسها بشكل او اخر.
نصل لاستنتاجين مهمين:
1- ما جرى ويجري في البرلمان، وبين القوى السياسية هو -في رأينا- نتيجة لعملية معقدة مجتمعية/قاعدية، او "لمرجل" كبير سيفرز في النهاية منتجاً يفرض نفسه على سياقات البنى الفوقية. وأملنا ان يأتي هذا المنتج اكثر فاعلية وتقدماً من المنتج القديم الذي يزداد -بوضوح- تعطل مفاعيله. فاخذت احدى القدمين تعرقل الاخرى، بدل ان تساعدها.
2- سياقات البنى الفوقية الدستورية واالقانونية ومباني الدولة والسيادة ومحاربة الفساد وغيرها امور مهمة للتقدم. لكن الاهم هو وعي متطلبات البنى القاعدية/المجتمعية، او ما يفرض نفسه كـ"واقع حال"، خصوصاً في الجوانب العقيدية والامنية والاقتصادية والمكوناتية. هذه الاثقال ليست تراكمات كمية مجردة، بل تراكمات نوعية. بعضها تهرأت لكنها تظهر قوية لانها استمرار الماضي. وبعضها قوية في عمقها لانها اما استطاعت تجديد نفسها، او من ولادات الخط الصاعد داخلياً وخارجياً. فلا يتوهم احد ان ما سيجري يوم 26/3 -انتخاباً او تأجيلاً- هو امر سيحسم المسارات. فالمسارات المستقبلية ستحسم بمدى تناغمها -اساساً- مع الاثقال المجتمعية، و"واقع الحال" القاعدي، وليس الفوقي فقط.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha