د.جهاد العكيلي/ *||
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن المجتمع العراقي لم يُنصف الكاتب وأستاذ الفلسفة في علم الاجتماع الدكتور الراحل علي الوردي بقدر ما أنصف المجتمع من السياسيين وهو يمجدهم ويكيل لهم المدح ليجعل منهم سيوفا مسلطة فوق رقابهم ..
ولايزال الكثير من أبناء المجتمع يحملون طلاسم مهزلة العقل البشري في سلوكهم وأفعالهم منذ أن تأسست الدولة العراقية وإلى يومنا هذا من دون أن يحرروا أنفسهم من تراكمات الماضي في العادات والسلوك التي نخرت القيّم والمثل العليا في التعاملات والعلاقات الاجتماعية والوظيفية أيضا..
ولا نبالغ أيضا إن قلنا أن الراحل الوردي كان قد سبق عصره بنصف قرن عندما تصدى للعقل البشري العراقي في كتابه هذا والذي أكد فيه جازما من أن المجتمع يقوم على التنازع من دون التنافس وإن التنافس هذا هو الذي يؤدي الى الحركة والتطور ويقوم على اساس مبدئي لا شخصي تحركه مصالح الذات الشخصية .. فأطراف التخلف المجتمعي الذي يحكم بيئة المجتمع من البداوة والقبيلة والتعصب هي السائدة في تنظيم العمل في الدولة والتعاملات في المجتمع، فضلا عن إستشراء ظاهرة تفضيل الذات الشخصية على المصلحة العامة وشراء الذمم وسرقة أموال الشعب من دون وجه حق، وما لهذه الظاهرة من إنعكاسات خطيرة أكثر مما يتصورها البعض، ومن قبيل ذلك إنعدام الحياء والنفاق الاجتماعي والاخلاص بالعمل رغم أنها كانت موجودة بسب بعض عوامل التنشئة الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك ..
وحين إختار الراحل الوردي وصف مهزلة العقل البشري، او العراقي إذا صح التعبير، فإنه بلاشك كان قد وضع تصوره المستقبلي للعراق وخص به شريحة من العراقيين في بدايات هذا القرن الذي وصل بهم الحال إلى مهزلة لا توصف، ولو كان الوردي حيا الى يومنا هذا، لقام بتغير الكثير من مفاهيم ومضامين كتابه هذا ولأضاف له الكثير مما مر علينا في هذا الزمن من تقلبات وتغيرات في مجتمعنا الحالي وسلوكياته، ولتولى الوردي بمقارنة عجيبة بين عبادة الأثوان في الجاهلية وعبادة الإنسان في عصرنا هذا، ولخرج بمفهوم جديد عن صنمية الإنسان وليس صنمية الاوثان، وهذا ما يشكل عاملا مهما لتدمير المجتمع وتأخيره كما نحن عليه الآن ، وكأن لسان حال الوردي الغائب ــ الحاضر يردد : والله إني لأتعجب من المسؤول عن الشعب ان يسرق اموال شعبه ، ويخون بلده، والاستاذ في الجامعة يهب الصفات والتفوق لمن يشاء ويضفي الامتياز للدراسات غير الرصينة، والطبيب الذي عاش في ظروف اجتماعية غاب فيها الرادع الذاتي والقانوني وحلَّ محلهما السرقة وحُب المال وثقافة عدم تقدير العلم والعلماء كما يتم تقدير الأموال والمناصب ..
أجل، أيها الوردي، لقد قام على رأس المؤسسات العلمية والطبية المتسلقين على جدران القوى النفعية، وآخرون تسلقوا ذات الجدران على مؤسسات ذات طابع أدبي او سياسي او إنساني ليتولون تهديم الإنسانية من دون أن يفقهو ما لهذه المؤسسات من خصوصية تعتمد على المهنية والكفاءة وما لها من تأثير سلبي سيطال الحياة والاجيال اللاحقة، وهذا ما سيرسخ في عقليتهم صنمية الولاء لمن يمنح المناصب والمواقع لغرض المنفعة الذاتية الشخصية، وبذلك يتم تدمير المجتمع الذي تربى على نكران الذات وحُب الوطن والولاء له عبر ترسيخ مفاهيم وثوابت العلم والمعرفة.
*كاتب عراقي
https://telegram.me/buratha