المقالات

هل سمعتم بجريمة يؤبن فاعلها ؟؟  


رياض البغدادي ||

 

من أغرب ما يمكن أن يشهده الإنسان في حياته، دون أن يجد له تفسيراً منطقياً، هو تبادل التهاني والتبريكات في المقابر الجماعية !!

هذا بالضبط ما شهدتُه وطرق سمعي مباشرة ... لقد سمعت (أُم غالب) من أهالي الرميثة تهنئ السيدة (أُم حيدر) من أهالي بدرة، حين عثرت على ما تبقى من عظام جثمان ولدها في المقبرة الجماعية في صحراءِ النجف الأشرف ...

الآباء والأبناء والأُمهات والحبيبات المفجوعون جميعهم، الذين ملأت أظفارهم رمال الصحراء، حيث يبحثون عن فلذات أكبادهم، يتحسسون أنفاس بعضهم بعضاً ،فضلاً عن أصواتهم ،لعلهم يسمعون صيحة من أحد يفاجئهم بخبر سار، عن عثوره على شيءٍ يوصلهم بفقيدهم، هم متيقنون جميعاً أن هذه العظام تشير قطعاً الى وجود أولادهم ،إن لم يكن في هذه المقبرة ،فقطعاً هم في مقبرة أخرى في بقعة ما من بقاع العراق،  شيءٌ من ثيابه أو خاتم أو حتى وشم او وثائق شخصية تشير الى مقتولهم ،سيكون لها الأثر الذي سينهي الجزء الأهم من عذاباتهم، لأن ذروة عذابهم الآن تتلخص بدفن فقيدهم، حتى ولو كان عظمة واحدة من عظام جسده الطاهر ...

كنت حاضراً التفجيرات الدموية التي حدثت في العاشر من محرم الحرام العام1425هجرية الموافق الأول من آذار العام 2004 م في كربلاء المقدسة ورأيت بأم عيني المفجوعين بأبنائهم ،وسمعت أحد الرجال من كبار السن يقول لأبناء عمومته المحيطين به قرب مستشفى الحسين التعليمي " إن كنتم تحبون ولدي وتصدقوني بالمواساة، فإني لا أطلب منكم سوى أن تجدوا لي جثمان ولدي " ....

‏‎أكثر من ٨٠ الف أسرة في جنوب العراق ووسطه، ما زالت تعيش هذا الألم جرَّاء مذبحة الانتفاضة الشعبانية، تخيَّل ربع قرن يمر، والأم أو الزوجة لا تعرف أين جثمان حبيبها، الذي قتله البعثيون في أفظع مذبحة يشهدها التأريخ العربي الحديث، ربع قرن يمر، ولا يحدث شيء سوى أنّ الجرح يكبر ...

لم يرتكب البعثيون الجريمة مرة واحدة، بل مرتين، فبعد أن دفنوا ضحاياهم ووصلت الأخبار الى الإعلام العالمي، وأدركوا أنّ المجتمع الدولي سيبدأ التحقيق، راحوا ينبشون هذه المقابر، وأغرقوا بعضها بالماء وتحويل أكثرها الى مزارع لإخفاء أثرها ...

شاركتُ أنا شخصاً في العام 2004 في فتح بعض المقابر الجماعية في العراق للبحث عن الأقرباء المفقودين، ورأيت ما يعجز العقل البشري عن مجرد التفكير فيه، وقد سألني أحد أصدقائي عن أصعب موقف مررت به إثناء حضوري عمليات البحث في الرفات، ولما عجزت عن تقدير أي المواقف كان أصعب، إضطررت أن أنهي سكون إنتظاره، بقصة هيكل عظمي لسيدة وجدناها وقد وضعت فمها بفم رضيعها، ربما كانت تمنحه آخر ماتملكه من أنفاس، لتديم له الحياة ولو للحظات أخرى لا تملك غيرها ،أو ربما كانت القبلة الأخيرة .... 

من أصعب المشاهد أن ترى الناس، وقد جلبوا معهم صور أبنائهم المفقودين، يحاولون عبثاً أن يطابقوا تلك الصور مع الجماجم العظمية، لعلهم يفوزون بشيءٍ من أثر ....

‏‎لا يمكن تخيل الآلام التي عشتها وأنا أتجول بين أكوام من العظام البشرية، التي تحيط بكل كومة منها، مجموعة من المفجوعين الذين يبست شفاههم، وهم يتحدثون عن آخر اللحظات، التي جمعتهم بأبنائهم وبناتهم المدفونين في هذه المقابر الجماعية ... التفاصيل كانت مريعة، فكل كومة من العظام كان قصة بحد ذاتها، بل كان تأريخاً حافلاً بالظلم والإستبداد، يروي قصة جمهوريةٍ بنيت على الدماء والعظام والجماجم البشرية ...

السيدة دلال أُم قاسم من أهالي الشوملي، وجَدت زوجها وبجانبه ولدها ذا السبعة سنين، جلست بجانب عظام ولدها، ومدت عباءتها دون شعور ،تظلّل على جمجمته من الشمس الحارقة، وحين قمنا بمساعدتها في جمع العظام، كانت تحرص على وضعها بلطف في كيس من القماش ،وكأنها تصف زجاجات تخاف عليها الكسر ..ولما أتمت جمع العظام ربطت الكيس الى بطنها، وفجأة صارت تصرخ بأن ولدها هكذا كانت تحمله ايام حملها به، وبعد لحظات أغمي عليها وأحاطت بها النساء وصار الصمت سيد الموقف ...

‏‎قصص الضحايا كثيرة، فكل جمجمة كان قصة، وأصبح سؤال المفجوعين عن قتلاهم بحد ذاته فاجعة جديدة، لانها توقظ الذكريات، وكأن المرءَ مختارٌ يشارك في الجريمة التي حدثت قبل اثنتي عشرة سنة.... عبثاً أشيح بوجهي هنا وهناك، لأخفي دموعي التي حسبتها قد جفت عند تلك السيدة ورضيعها ... لله دره غسان كنفاني الذي قال في رائعته "عائد إلى حيفا":

 (كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقًا صغيرًا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود) ...

‏‎عند غروب الشمس وفي مشهد مَهيب وسكون عجيب، المئات من ذوي الضحايا يسيرون بصمت باتجاه الشارع العام، يحملون أكياساً، فيها ماتبقى من جثامين أبنائهم، وكل هنيهة تصدر صيحات ادّخرتها الأمهات، لشق مثل هذا السكون الذي لا يرضي آلامهن ...

‏سألت نفسي : هل يدرك الجناة حجم جريمتهم؟

كيف يمكن للإنسان أن يكون وحشًا إلى هذه الدرجة؟

‏‎مَنْ بوسعه - ومهما كانت الأسباب- أن يجد عذرًا لهذه الجريمة؟

‏‎وما زال العالم يخون شهداء وضحايا الإنتفاضة الشعبانية، مثلما خانتهم الأمم المتحدة التي أعلنت أن خط العرض 32 منطقة آمنة، لكنها لم تكن آمنة أبدا، وهكذا اليوم، نجد أتباع السفارات الاجنبية من المتخفّين تحت يافطة التظاهرات العراقية، يرفعون أصواتهم علانية لتأبين الجناة، الذين ارتكبوا تلك المذابح، ويحسبون أن الله غافل عما يفعلون ..

‏‎ما زال العالم يخون ضحايا الانتفاضة الشعبانية في العراق ، بل وشرعت الدولة العراقية (الديمقراطية) القوانين إمعاناً في خيانتهم، وإصراراً منها على محو كل أثر يشير الى بطولاتهم.

رسالتي الى أبطال الإنتفاضة الشعبانية ممن سَلِمَ من المقابر الجماعية :

‏‎إياكم والنسيان، وثِّقوا كل جريمة حدثت، أبحثوا عن كل السبل القانونية لتحاكموا بها الجناة، لا تَدَعوا صبركم ينفد، فأرواح الضحايا تنتظر المخلصين منّا وإن عزّ في هذا الزمن الإخلاص ....

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك