المقالات

المأساة والمتصدق المجهول


 

كلّما جاءَ المساءُ خرجَ وعلى كتفهِ جراباً من الطعام لا أحدَ من المساكين يعرفُ من هو؟ ولا يوجدَ من يعاونه في عملهِ هذا، وكانت الدولةُ لا تفكر في إطعامِ أحدٍ من الرّعية بل كانت تقتسمُ مالَ الله بين فئةٍ من الناس ولا يكادون يشعرون بتلك البطونِ التي مسها الجوعُ والعطشُ. 

وعندما كان يُطعِم الناسَ من خيراتِ الدنيا فيشعرهُم بمن يريدُ لهمُ الشبعَ بعدَ الجوعِ لم يكن يستطيعُ الجلوسَ على مائدةٍ إلا وقد مزَجَها بدموعِ عينيه، تلكَ العيونُ التي ما برحت تبكي مقتلَ أبيهِ وأخوتهِ وأصحابِ العقيدةِ من رجالِ الله. 

وبينما هو غارقٌ في همومِ تلك الذكرياتِ المأساوية لم يكن يريد للمستضعفين أن يمرّوا بتلك اللوعةِ التي أصابتْه وأهلَ بيتهِ عندما وقعوا في أسرِ الفئةِ الضالة. 

ولم يكن الزمنُ قادراً على أن ينسيه تلكَ اللحظاتِ التي تمر على الإنسانِ الفاقد للأبِ والأخوةِ والأصحابِ، فكان تفكيرُه منصباً في الليلِ والنهارِ على التفكيرِ بتلك الأفواه والبطونِ الفارغةِ. 

وهذا كان ديدَنه مع الجميع فان كان هناك من يعاديه، كما كان يفعل أحدُ الحكامِ لم يجعله ذلك يغيّر من أسلوبِه في معاملةِ الإنسانِ بحسب حاجتهِ لا بحسب تاريخهِ وسيرتهِ، وحتى لو لم يكن نادماً، فيمنع أصحابَه من التعرّضِ لمن ينزلُ عن مرتبتهِ الاجتماعية، فلا يلتفتُ إلى التاريخِ لأنه قد مضى فالنفوسُ الكبيرةُ لا تقفُ عند هذه السفا سف. 

وعندما تنقلبُ الأمورُ ولا يجدُ أعداؤه أحدا يستقبل عوائلهم بعد أن ثارتْ عليهم مدينةُ النبي (صلى الله واله)، تجد قلبَه مفتوحاً للنساءِ والأطفال، فهم لا ذنبَ لهم سوى التبعية للظالمين، مع علمِه أن الظالمين لن يتبدلوا، فأعطى بهذا رسالةً للأجيال بأنّ علينا أن نكرَه الإثمَ والخطيئةَ ولا نكرَه الإنسانَ الآثِم، فكلُ واحدٍ من البشرِ يمكن أن يقفَ موقفَ الظالمين عندما يفقدُ السيطرةَ على خارطةِ الطريق. 

وعندما يتنقلُ في شوارعِ المدينةِ المنوّرة فتتعرض له النفوسُ المريضةُ بالأذى فهي تنتظرُ منه الردَ بالمثلِ ، لكنه يخيِّب أملهُم ويجعلهم يندمون عندما يرد شدة الأذى بالإحسان، والغلظةَ بالرفقِ، فيكتبُ للتاريخِ درساً في قتلِ عدوانَ النفوسِ بكبح جماحِ العدوانية في مهدِه. 

وتبدأ حياته يومياً في تربيةِ النفوسِ فيأتي بالعبيدِ من السوقِ ليعيدَهم دعاةً لله بعد الحريةِ والانعتاق، فيجد المعتقون أن الإسلام كان حريصاً على حريتهِم كما هو حريصٌ على أخلاقهِم، وفي كل يوم تبدأُ قافلةُ الحرية من بيتهِ لتنطلق إلى المجتمع محملةً بكل معاني الإنسانيةِ والسمو بعد أن تتزوّدَ بكلِّ معاني الخيرِ والتقوى. 

وتجد أنّ حياتَه لا تتبدلَ فهو يعيش من أجل إحياءِ النفوس، ولا همَّ له سوى إنقاذها من براثنِ الشيطان، وإيصالها إلى عالمٍ من الأمن والأمان. 

فتجدُ بعضَ الموالي لا يريدونَ الذهابَ بل يتمسّكون بالبقاءِ معه مع العبودية على الحياة مع غيره بحرية ، فلا حياةَ بعد هذه الحياة، ولا نجاةَ بغير هذه الصحبةِ الإنسانية، فيخشى بعضهَم على نفسِهِ من الضياعِ إذا غادرَ المكان. 

فإذا مرّ بالسوق كانت كلماته تعبّر عن إرادةِ الله للإنسان، ولا يتعرض لما مر عليه من المأساة إلا إذا وجد ذكرى من ذكرياتِها حاضرةً أمام عينيهِ من دونِ أن ينظرَ إلى محاسبةِ المجرمينَ، ولا مضايقةِ أتباعهم من المغفلين،حتى وإن سقطوا وضاعَت هيبتَهم، بل كان يعيش بين الناس وهو جسدٌ لا أكثر فروحُه معلقةٌ بالملكوتِ الأعلى. 

عندما يأتي الليلُ لا ينام كما تنام الناسُ بل يخلدُ إلى الذكرِ بلا انقطاعٍ، وفي النهار ليس بينه وبين الطعام وصالٌ سوى لقيماتٍ في موعدِ إفطارِ الصائمين. 

والناسُ معه لا تخافُ حتى عندما تخطيء وتسيء، مع أنه لا ينسى صاحب الخطأ لكنه أرفع من رغبة مباشرة العقوبة؛ وكيف لا يأمنونَ وهم يرون إرادة الله تتجسدُ في إنسان، والتقوى تمشي على الأرضِ والزهدُ يسير في أزقة المساكين، يتخفّى ليلاً وهو يملأ أبوابَ بيوتهِم من العطاء دون أن يعرفه أحد ، ويصل الجميعَ دون استثناء، فلا القريبُ المعادي له عدو، ولا البعيدُ المعادي له عدو،فلا عداوة في قاموسه، فان سمعَ من قريبهِ كلاماً يذكرُه فيه بسوءٍ لم يرفع غطاءَ وجههِ لكي يحظى برضاه، فليس المقصودُ من هذا البذلِ سواهُ جلَّ وعلا ، فهو يعمل وكأنه يتنرنم بقوله: ( رضِّ وجهاً يكفيكَ الوجوهَ جميعاً). 

وعندما ذهب إلى ربه ما دله على فعله هذا سوى آثار الجرابِ على ظهره فهو يعرف أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب) فكانت شهادة لميت بأنه المتصدق المجهول. 

جميل مانع البزوني 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك