لن انسى اللحظة التي وقفت فيها بانتظار أن يوقع الموظف مباشرتي في العمل لأول مرة عام 2003 فلقد رفع رأسه وضحك قائلاً أنتي أول أسم باشر تعينه بعد السقوط عندنا ! شعرت لحظتها بمسؤولية وأنني وامثالي سنكتب صفحات التاريخ الجديد للعراق وسنخرج الاسلام من النظرية الى التطبيق ! .
سرعان ما اصطدمت بالواقع المخيف الذي كانت تعيشه الاجواء الوظيفية تلك الفترة بغياب القانون وترقب وخبث البعث المتوغل في مفاصل الدولة , ولم يكن التهديد والموت يرعبني بقدر الاختلاط المبتذل بين الموظفين والموظفات فلا عفاف يحفظ ولا كلمة تنتقى والحال انني اؤمن بإنفتاح مشروط بقواعد أخلاقية اسلامية ولكن الواقع كان مستنقعا ً يصعب تقبله .
تركت الوظيفة الحكومية ولم أأسف عليها ليومي هذا بل واستغرب عشاق الحصول عليها ! دائما كنت لا أطيق المنطقة الرمادية فإما الابيض أو الاسود وصرت انتقل من عمل الى عمل حتى استقريت على التدريس الذي وجدت فيه ضالتي فالمراهقات صفحات بيضاء نستطيع ان نسطر فيها ما نشاء ونحقق حلما في إنشاء جيل نظيف .
وفي كل مرحلة كنت أجد العوائق و اللون الرمادي يتابعني فالنفاق والتسقيط ووو كلها أمراض اجتماعية لا يخلو منها مكان لكن بدأت استوعب تلك الحقيقة انه لا مهرب من اللون الرمادي ولابد من أن تقبله على مضض وكنت اعلل لو أن رأس الهرم يكون أبيضا ً لاختفى الرمادي كليا ً .
ومرت الايام لاجد نفسي رأس هرم في مؤسسة تربوية نخرها الفساد فهرع قائموها للاستدراك , شمرت ساعدي فالفرصة لا تعوض وربما يكون عمرها قصير وأول ما قدمته خطة اقتصادية ( وكان أملي ان ارى مشروعا تقدم خطته قبل تنفيذه!!) ثم عملت بمبادىء كنت اجدها ان فعلت في مكان لازدهر .
وما أن حل الاستقرار النسبي حتى بدأ القائمون بفرض بعض الاشخاص على الوظائف دونما مناسبة علمية وبحجة المصلحة ! وهنا انتفضت سأرحل سأترك فهل أقبل اللون الاسود في بياض الاختيارات لينتج رمادي في دائرة اديرها هيهات .
وبين مد وجزر وصراع ومقاومة استسلمت لوجود 10% من السواد احاصره واتابع خطواته كي لا ينشر التلوث !!! ولكن استشعار اليأس في داخلي مؤشر اخشاه ويظل السؤال قائما ماهو القرار الصحيح الانسحاب التام من المجتمع ؟ أم الاختلاط مع كل هذا الالم ؟ هل نمرر بعض ما لا نقتنع به ومتى وكيف ؟ أم هناك حل اخر ؟
أدركت انني في كل الظروف لابد أن اجاهد وانني غير مرتاحة مهما كان موقعي في المجتمع فلا رأس هرم ولا قاعدة بمنأى عن تقبل ما لا تستسيغ .
ونصحتني أحدى الاخوات الفاضلات أن استقبحي القبيح لا فاعله وجردي الفعل عن الفاعل قدر المستطاع وبهذه القاعدة انفتحت أمامي افاق جديدة واستقرت نفسي بعد لجوئها الى كتاب نهج البلاغة فكنت بحاجة لقائد إداري يكلمني ويعلمني قواعد الادارة فكانت كلمات الامير ع البلسم الشافي لي فلقد قدم لي طرق عجيبة في حل الازمات فما ان تأتي المشكلة حتى تقفز بذهني عبارة له عليها السلام فيها مفتاح الحل .
اكتشفت وبعد 14 عاما ً من العمل أنه لاضير اذا تقارب الابيض من الاسود وانهما لن يختلطا لاظهار الرمادي الذي اخشاه الا في عالم الالوان , فذات الانسان فيها الخير والشر وهو يقاوم لحصر المنطقة السوداء في داخله ان كان موفقا ً لذلك , وان وجودك في مجتمع مهما كان ملوثا ً لن يلوثك الا بإستسلامك وان هذا الاستسلام شائع لاننا في الحقيقة لم نؤمن بعقيدتنا ونفخر بها حتى الان !.
أدركت أنني لو تمعنت في كتاب نهج البلاغة وتحديدا وصيته لابنه الحسن عليهما السلام قبل 14 عاماً لما عانيت روحيا ً كل هذه المعاناة فالانجاز يحقق ولكن مع اعتصار الروح والمها ام مع الرضى والتقبل , شتان بين الامرين .
في داخلك وداخلي أبيض وأسود وفي مجتمعنا أبيض واسود وفي الاخرة جزاء للابيض والأسود والله عز وجل أعطانا النتائج في كتابه الكريم واجرى الحكمة على السنة العترة الطاهرين غيرنا اننا نبتعد ونتبعد ونغرق في التجارب المادية لتمر السنين تلو السنين واما ان لا ندرك الحقيقة او ان ندركها متأخرة .
للحديث تتمة .... في مقالات أخرى أسوق فيها الشواهد لشبابنا عسى أن يختصروا الزمن في الوصول للنتيجة التي هي في كتبنا !!
جاهل من لا يجعل نهج البلاغة منهاجا يدرس حتى في الجامعات فالاخلاق تدرس في اليابان من المراحل الاولى للجامعات وكتبنا تجمل مكتباتنا ليس الا !!
المهندسة بغداد
https://telegram.me/buratha