( بقلم : بشرى الخزرجي )
تذكرت جدتي حين قمت بزيارة تلك العجوز العراقية التي تسكن دار العجزة في إحدى أحياء لندن .. جدتي التي قضت نحبها في المنفى وهي تنتظر خلاص ولدها آخر العنقود من أيدي جلاديه القتلة الذين حجزوه وعزلوه عنها دون ذنب في ثمانينات القرن الماضي حين قام نظام البعث الحاقد على البشرية وقتها بتهجيرها من مدينتها (البصرة) التي ولدت ونشأت وكبرت فيها الى الجارة إيران، ليس لذنب إلا لانتمائها لمذهب أهل البيت الأطهار (ع).. حكاية تلك العجوز المسكينة المنسية تدمي القلب كحكايات الكثير من العراقيين الذين خسروا فلذات أكبادهم بطرق وحشية دموية لا تعرف الرحمة.. هي قصة تشبه الى حد ما قصص أفلام الرعب التي نهوى مشاهدتها، حيث عيد الرعب (Halloween) الذي ينتظره الأطفال في بريطانيا بفارغ الصبر في نهاية شهر أكتوبر تشرين الأول، لا لشيء إنما لحرصهم الشديد للحصول على المزيد فالمزيد من الحلوى التي يجمعونها عن طريق قرع أبواب الجيران وهم متنكرين بزي شخصيات مرعبة من نسج الخيال كشخصية مصاص الدماء الشهيرة (دراكولا)، كما هي احتفالات الأطفال في النصف من شعبان في بلادنا إلا أن الفرق بين العيدين كبير طبعاً.
وكي لا اذهب بكم بعيداً عن ما أردت قوله من خلال ذكر قصة هذه المرأة العجوز الوحيدة في دار المسنين هو أنها وكباقي أمهات العراق الذين صدموا بواقع اختفاء أبنائهم في مقابر جماعية ضمت والى الأبد حقيقة نظام دموي قمعي قام وبدون أي وازع انساني على إبادة أولادها الأربعة .. كانت زيارتي الثانية لها، فأنا لا أعرفها جيداً لكني سمعت عنها عندما سقط النظام وأخذت أخبار الأبناء السجناء تنكشف للناس تباعا، أذكر جيداً في حينها وتحديداً في العامين 2003-2004، فلا يمر يوماً إلا وأنا في زيارة لمأتم من مآتم أصدقائنا ومعارفنا، ومن شدة تأثري بقصة هذه الجدة العزيزة بكيت عليها كثيرا وتأثرت لغربتها وقلة حيلتها أكثر مما بكيت على أبنائها الذين تركوها ورحلوا الى حيث رحمة الله الذي لا يغفل حق مظلوم، وعلى حد قولها: ليتهم تركوا لي قبوراً أزورها.
عندما دخلت عليها شقتها الصغيرة التي هي من ضمن دار كبيرة للمسنين وجدتها جالسة على كرسي قديم ممسكة بعصاها ونظرها مشدود الى حيث الحائط المقابل وكأنها تنظر الى الماضي كي تجتر منه صور أولادها المغيبين .. التفت بدوري الى الجهة التي كانت تحدق فيها وقد لاحت لي صورة كبيرة استنفذت مساحة واسعة من الجدار .. كانت صورة أبنائها الأربعة وهم في حضنها شباب بعمر الزهور كبيرهم كان آخر سنة دراسية بكلية الطب وصغيرهم لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، حين فزعت الأم المنكوبة من نومها في تلك الليلة الظلماء على صوت الأوباش الأشرار وهم يسحلون أكبادها أمام عينيها وهي تنظر إليهم ولا تستطيع فعل شيء لهم، فالمسكينة لا تملك غيرهم بعد ان فقدت والدهم حين كانوا صغاراً لم يبق لديها بعدهم إلا بنتان متزوجتان لهما حياتهما الخاصة. نعم تركوها وحيدة في الدار ومن يومها والأم المسكينة تنتظر! الى ان جاء يوم السقوط وقتها تيقنت أن انتظارها كان عقيماً .. تتكلم المرأة الطاعنة في السن عن أبنائها وكأنهم أمامها أحياء ما برحت تحكي وتحكي عن ذكاء ولدها البكر وعن مغامرات الباقين في الجامعة والإعدادية وكيف أنها كانت تضرب أصغرهم بالعصا إذا تأخر خارج البيت ، ثم تنتبه مردده ليتي لم أفعلها.
سمعتها وانا صامتة مكبرة فيها هذا الصبر الشامخ كشموخ الجبال لم أقاطعها لأنها لا تحب من يقاطعها وهي مسترسلة في الحديث عن الأبناء الشهداء، كنت أتساءل في صمت عن القدر الذي أوصلها الى هنا وأنا اعلم أن لها بنتاً تسكن في الحي نفسه كانت وراء مجيئها الى هذا البلد .. فمثل هذه العراقية الأصيلة يوجد الكثير! فقد أرشدتني هي بنفسها على عجائز من الرجال والنساء تُركوا نهبة للوحدة والغربة لا يذكرهم أحداً إلا في المناسبات، هذا هو حال كبارنا الصابرين في المهجر فكيف هو حالهم داخل بلدهم الجريح! ونحن نسمع عن معاناتهم في كسب لقمة عيشهم كما تلمست بنفسي هذه الحقيقة عند زيارتي العراق وأنا أتعمد شراء أشياء لست بحاجتها من كبار في السن يبيعون في الاسواق وعلى بسطات بسيطة علكة الماء أو ليفاً يدوية الصنع.
إن هذه السيدة الفاضلة وغيرها من أمهات العراق المكتويات بنار فقد أحبائهم والذين يطالبهم البعض ان ينسوهم وينسوا مأساتهم من أجل مسميات عدة كالمصالحة التي من معانيها مصالحة الذات والعودة الى الضمير الذي فقد حين نسينا أهلنا من الأمهات والآباء الذين ضحوا وصبروا وبعد مشوار من العذاب والانتظار لم يحصدوا سوى ألم الوحدة والفراق.
في الواقع ان تخفيف آلام هذه الشريحة الواسعة من عوائل الشهداء والمفقودين لاسيما كبار السن منهم لا يتم فقط عن طريق تعويضهم مادياً وهو الأمر المفروغ منه والذي هو أبسط حقوقهم علينا، إلا أن المقطوع منه هو الجانب المعنوي الذي يبقى الأهم في تخفيف تلك الألام والمعاناة.
فما يعيشه الشارع العراقي من حوادث وتقلبات وتغير أمزجة ساسات إنما يؤثر وبشكل سلبي على تلك النفوس العراقية الطيبة المنتظرة بفارغ الصبر سماع صوت منصف ينظر الى معاناتها بجدية ويبعث الأمل فيها، لا أن يتجاوزها ويبرر لمسببيها كي يستمروا ويتمادوا ويكرروا مآسي وجرائم الماضي التي أثخن بها هذا الوطن الكبير والى يومنا هذا، فحتى المريض عندما يراد له الشفاء من مرضه يأخذه الطبيب في رحله علاجية يكون من ضمنها رفع معنوياته التي هي النصف الأكبر من العلاج .
والسؤال الملح هنا: كيف يمكن ان نتعلم من أخطائنا إذا لم نعترف بها أصلا؟ كيف يمكن ان نطالب المظلوم بأن ينسى ويصفح ونحن نصر على الأخطاء ونعتبرها تاريخاً زاهراً وبطولات لا يمكن مناقشتها؟ لم يسمع ذوو الشهداء الأكارم الذين هم جل الشعب العراقي من جلاديهم يوماً وبعد أن سقط صنمهم سوى العنجهية والتزمت بالرأي والقفز على جراحهم، وقد علت هذه الأيام أصوات نشاز تطالب وبكل وقاحة بإطلاق سراح قاتلي أبنائهم من السجون بعد إسقاط التهم عنهم دون التفكير بتلك العوائل المضحية أو احترام دماء شهدائهم .. ثم يطالب العراقي المظلوم أن ينسى جراحاته ويسمح للجلاد أن يعود كي يجلده من جديد لكن هذه المرة بسياط الذل والهزيمة وبيع دماء الشهداء بثمن بخس من اجل ان يرضى هذا الجلاد المدلل عند أعراب دول المنطقة الذين يساهمون عبر تصدير الإرهاب في ديمومة جراح هذا الوطن النازف، وحسبنا قول الكاتب البريطاني الشهير شكسبير يوماً .. أكون أو لا أكون.. هذا هو السؤال!
بشرى الخزرجي_لندن
https://telegram.me/buratha
