المقالات

الرواتب والأجور مفتاح استقرار للدولة


( بقلم : ابو مرتضى العسكري )

مما لا شك فيه إن استقرار الهيكل الإداري للدولة ورسوخ تقاليده هو العامل المهم في نهوض الدولة بكل عناصرها بمهامها التي أوكلها الشعب لها وفقا لعقد تكوين الدولة (( الدستور )), واحد العوامل التي تشكل تلك الهيكلية هو نظام متكامل للرواتب و الأجور يلبي متطلبات استدامة و استقرار الهيكل الإداري ويرتبط هذا النظام بفلسفة النظام العام الذي تعمل وفقه الدولة.

وآيا كانت المعطيات التي أوصلت نظام الرواتب والأجور للعاملين بالدولة العراقية في صفحتها الراهنة إلى الحال المرتبك و المتسم بالفوضى المالية وما يترتب عليها من أثار على مختلف الصعد فأن ضرورة إصلاح هذا النظام باتت ملحة جدا لإيقاف التردي الذي نتج عن هذا الارتباك. ومع التأكيد سلفا أن مهمتنا ليست (( تصميم )) نظام للرواتب والأجور, فهي خارج تخصصنا وإمكانياتنا لكن احتكاكنا بالعديد من الكوادر الإدارية ومن مختلف مستويات العاملين في أجهزة الدولة والشكاوى و المشكلات التي تواجهها تلك الأجهزة والتي تقف عاجزة عن إيجاد حلول لها أملت علينا هذه المقاربة التي سيكون محورها الملامح السياسية و الاجتماعية لنظام الرواتب و الأجور الحالي والآثار السلبية الحاصلة من استمراره.

ولا بد من الإشارة إلى أن الدولة العراقية منذ تأسيس الحكم الوطني في عشرينيات القرن الماضي استقرت على نظام للرواتب والأجور كان مرتبطا بعدد من العوامل الأساسية أهمها التحصيل العلمي و المسؤولية المناطة بالموظف وهي ما يعبر عنها بالدرجة الوظيفية ثم سنين الخدمة ودخلت على هذه العوامل مؤثرات ثانوية أخرى لعبت دورا في تحديد الرواتب والأجور مثل الحالة الاجتماعية ( الزوجية + والأطفال ) والموقع الجغرافي لمحل العمل وساعات العمل، واستمر الحال لغاية السبعينيات من القرن الماضي حينما تم إضافة حزمة جديدة من العوامل التي أثرت على مستوى الرواتب والأجور وهي ما يعبر عنها بمخصصات غلاء المعيشة التي كانت متحركة بحيث تتصاعد كلما انتقل الموظف إلى مركز وظيفي أعلى, مع ظهور مخصصات أخرى مثل مخصصات الخطورة والعدوى للمهن التي تتطلب ذلك, ثم منحت الوظائف المهنية والفنية والهندسية والطبية مخصصات للمهن تصل إلى 100% من الراتب الرسمي، وهكذا فأن الراتب الذي كان يتقاضاه العاملين بالدولة العراقية مبنيا على أسس عادلة وان كان دون الطموح, ولغاية أوائل الثمانينيات كان العاملين بالدولة العراقية عماد الطبقة الوسطى التي هي الركيزة الأساسية للسلم الاجتماعي. وازداد الخلل لنظام الرواتب والأجور مع تسلم صدام المقبور للسلطة في تموز 1979 وان كان الخلل قد أسس له قبل ذلك منذ أن استولى حزب البعث على مقاليد الأمور في تموز 1968, فقد ادخل صدام عامل الولاء للسلطة ضمن نظام الرواتب والأجور، وعبر عن هذا العامل بنظام الحوافز الذي كان ظاهريا مرتبطا بالإنتاج والإنتاجية لكنه بالحقيقة مرتبط بالولاء للنظام, وتفقطت الزيادات على العاملين في أجهزة الأمن والمخابرات والأجهزة القمعية وكبار الضباط في الجيش والشرطة, وللتدليل على إن الزيادات كان تمنح وفق لولاء العاملين فان رواتب الجنود العاملين في الحرس الجمهوري مثلا كانت أربعة أضعاف أقرانهم بوحدات الجيش العادية وكان راتب الشرطي في الشرطة المحلية لا يشكل إلا اقل من 30 % من شرطي الأمن مثلا, وكان راتب المهندس في أي من وزارات الدولة لا يصل إلى 25 % من راتب قرينه في الدائرة الهندسية لديوان الرئاسة, وراتب أستاذ الجامعة الذي يحمل شهادة الدكتوراه في أندر الاختصاصات اقل بكثير من راتب نائب الضابط شبه ألامي في أي من قطعات الجيش العراقي الباسل على شعبه ! وتمادى النظام ألبعثي في تدمير الأسس الإدارية السليمة التي كانت قد بنيت عليها أنظمة التشغيل والتعيين والرواتب والأجور إلى حد الإسفاف. والغي مجلس الخدمة الذي كانت التعيينات في دوائر الدولة تتم من خلاله فقط ، و منح كل من يصل إلى درجة عضو شعبة في حزب البعث درجة مدير عام والحقوا في مكتب المنظمات الشعبية التابع لمكتب أمانة سر القطر، وقد كانوا بالآلاف ! فيما كان جميع أعضاء الفروع يتقاضون راتب وزير وكانوا ضمن أصحاب الدرجات الخاصة مع إن قسما مهما منهم لا يحمل شهادة الدراسة الابتدائية، وهكذا فان النتيجة مع أوائل التسعينيات من القرن الماضي كانت انهيار الطبقة الوسطى ولجوءها إلى وسائل إضافية لتحصل عيشها لمواجهة أعباء الحياة، فيما نشأت طبقة طفيلية من الجهلة والأميين وأصبح راتب المعلم والمدرس والطبيب والمهندس لا يتجاوز الـ 3000 دينار (سعر طبقة بيض) فيما كانت رواتب العاملين بأجهزة النظام العراقية والتصنيع العسكري تصل إلى مليون دينار وتتجاوزه في أحيان كثيرة, وبدلا من تلك الصورة الرائعة للموظف العراقي النبيل الذي كان حريصا على ارتداء ربطة العنق والبدلة الرسمية أثناء الدوام الرسمي لأنها من مستلزمات هيبة ووقار الوظيفة الحكومية شهدنا موظفين بملابس رثة معظمها من الملابس المستعملة ( البالات ) فيما ترفل أجهزة النظام بملابس الزيتوني التي يتدلى في جانبهم المسدس(13) بالغلاف الجلدي !و أصبح السكن معضلة كبرى تواجه الموظف العامل في دوائر الدولة، فيما أنشأت أحياء خاصة لموالي النظام، وفي كل محافظة تقريبا هناك حي سكن للرفاق وأجهزة المخابرات ومثله لقوى الأمن ودورا أو مدنا للضباط في كل مكان تقريبا.....

إضافة إلى ذلك كله فقد استثنى أبناءهم من شرط المعدل للقبول بالجامعات فأمكنهم بذلك الحصول على شهادات جامعية ليعدهم فيما بعد لتولي مناصب بالدولة, لقد سيس نظام الرواتب والأجور وانهار بذلك واحد من أهم دعائم استقرار إدارة الدولة العراقية وكان ذلك ايضآ احد عوامل الخراب الاجتماعي الكبير الذي حل بالمجتمع العراقي خصوصا بعد سنة 1990.

ويواجه نظامنا الجديد معضلة كبرى من خلال عدم وجود نظام عادل للرواتب والأجور ومع انه كان بالامكان العودة إلى النظام الرصين الذي سارت عليه الدولة العراقية لغاية سبعينيات القرن الماضي والذي كان حصيلة منطقية وسليمة لتطوير الدولة إلا إن عدم وضوح الرؤية وقلة الخبرة والمعالجة الغير موفقة من قبل ( سلطة بريمر ) أورثتنا مشاكل سيكون تجاوزها مكلفا وعسيرا, فالنظام الحالي بدرجاته الـ (10 ) يتصف بخط شروع متدني جدا ولا يصل إلى حد الكرامة وهو حد يفترض أن يلبي الحاجات الإنسانية الأساسية المشروعة للعراقي, وهناك فرق كبير بين رواتب الدرجات الدنيا والدرجات العليا يصل لغاية ( 200 ) ضعف للدرجات العليا عن رواتب الدرجات الدنيا, ولدينا أكثر من 10000موظف بالدولة العراقية رواتبهم ومنافعهم الاجتماعية تزيد عن ( 5) ملايين دينار منهم (1000 ) شخص تزيد رواتبهم عن (10) ملايين دينار ومن هؤلاء (300) شخص تزيد رواتبهم عن( 15) مليون دينار ومعنى هذا أن الدرجات العليا والخاصة تستهلك قسما مهما ورئيسيا من بند الرواتب والأجور في الميزانية, وهو ما يفسر لنا استماتت بعض الأحزاب لحصول أفراد منها على مناصب ضمن خانة الدرجات الخاصة. ولأن بند الرواتب والأجور في الميزانية العامة له سقف لا يمكن تجاوزه فأن ليس من المؤمل تحسن رواتب الدرجات الدنيا مادامت الدرجات العليا قد استهلكت معظم هذا البند ولن يكون بالأفق حل لمشكلة رواتب المتقاعدين وهم الشريحة الأكثر تضررا من أبناء الدولة العراقية, ومن حق جميع المتضررين أن يلقوا باللائمة بشان تدهور حالتهم المعيشية على الحكومة وقياداتها بالتحديد مادامت غير قادرة على معالجة هذا الخلل بإعادة التوزيع بعدالة لسلم الرواتب, وليس من المنطقي أن تبقي دولتنا الجديدة على أسس مشابهة للدولة التي نقضتها في 9/4/2003 والا فإننا لن نصنع شيئا البتة.

إن إعادة النظر في سلم الرواتب والأجور الحالي مهمة وطنية كبرى، وهو الذي أراد واضعوه بسوء طوية زرع ما يدمر الدولة الجديدة, ولعل الأمثلة التي سنوردها هنا عن عدم عدالة التوزيع في سلم الرواتب لا يحتاج من يطلع عليها إلى جهد كبير أن يكتشف أن الخلل إذا استمر سيؤدي إلى انعكاسات سلبية، وسيتحول إلى آفة تنخر بنية الدولة العراقية, ولكم أن تتصوروا مقدار الحيف الكبير الذي يعانيه الطبيب الذي يمتلك واحدة من أعلى مراتب المعرفة حينما يستلم في نهاية الشهر مرتبا لا يزيد عن 206 ألف دينار أي ما يقل عن 7 آلاف دينار يوميا، وهي اقل من أجرة التاكسي لأي مشوار صغير في شوارع بغداد, واقل من راتب شرطي حماية المنشآت الذي يتقاضى ما يزيد عن 350 ألف دينار واقل من راتب الجندي الذي يتقاضى ما يزيد عن 750 ألف دينار واقل من راتب الضابط ( ملازم مثلا ) الذي يتقاضى 1,250 مليون دينار ولكم ايضآ أن تحسبوا كم هي المشاكل التي تنشأ في مجتمع يتقاضى خريج كلية الهندسة المعين حديثا 165 ألف دينار أي أكثر بقليل من 5000 دينار يوميا وهي لا تكفي لأن ينفقها كأجور لنقله إلى محل عمله , وهل نتوقع من الموظف الذي يتقاضى راتبا شهريا يعادل مخصصات الطعام لعضو مجلس النواب ليوم واحد أن يؤيد الدولة أو يخلص في عمله !

ولعل واحدة من المشاكل الناجمة عن السلم الحالي والذي يتصف بالتفاوت الكبير الذي اشرنا إليه, هو التباين الكبير في القدرة الشرائية بين العاملين بالدولة العراقية ففيما تتدنى لدى الدرجات الدنيا فان الدرجات الأعلى تتصرف (برهاوة) وفقآ لقدراتها المالية العالية مما خلق شعورا بالمظلومية سيتفاقم إلى ردود أفعال غير منضبطة يمكن أن ترتبط بالمعضلات القومية أو الطائفية أو الفئوية.

ووفقا للتصورات التي يراها بعض المخلصين فان باب الفساد المالي والإداري سيبقى مشرعا في ضل الوضع الراهن والغير عادل لسلم الرواتب والأجور، ومع إن عدم العدالة لا يشرعن الانحراف لكنه يجعله في دائرة الممكن إن لم يكن في دائرة المقبول، بل يماسسه. وعلى رأي بعض الإخوة المخلصين، فان قرارا حكيما وصائبا يصدر عن رئاسة الوزراء وهو مما يقع ضمن صلاحيتها بتحديد الحد الأعلى لراتب الدرجات العليا والخاصة بما لا يزيد عن مليون دينار سيكون ضربة معلم واسهامة مباشرة في عقلنة العملية السياسية، وإيقاف التزاحم والتسابق بين الأحزاب والفئات السياسية للسعي على المناصب، وستزدهر فيها و سترسخ من خلالها فلسفلة أن الوظيفة الحكومية تكليف لا تشريف وميدانا للعطاء لا للأخذ فقط. وسيكون هناك استقرار في البنية الإدارية للدولة مرده توقف التزاحم الذي اشرنا إليه.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك