بقلم : محمد أبو النواعير
يتميز المذهب الشيعي, ومنذ أن بدأت بواكيره الأولى, بالارتكاز إلى قيادة, تكون هي القطب الذي تدور حوله الموجودات الإنسانية, في ذلك الزمان, والمكان؛ المؤيدة والمعارضة. وخلال التأريخ القديم والمعاصر, ظهر مفهوم المرجع والمرجعية على ساحة الإسلام الشيعي, كمصدر للإفتاء ومصدر لقيادة الأمة.والمرجعية الدينية تعني: المؤسسة الدينية التي يديرها المرجع, أو يمثلها بشخصه من الناحية العلمية أو الاجتماعية أو السياسية؛ ولذلك تعرف أحيانا بالشخص؛ فيقال: مرجعية الإمام الحكيم, أو مرجعية الإمام الخوئي, أو مرجعية الإمام السيستاني, أو غيرها للتعبير والدلالة على الطبيعة المتمايزة لكل مرجعية.والمرجع بتعريف السيد الشهيد الصدر: "هو الإنسان الذي اكتسب من خلال جهد بشري, ومعاناة طويلة الأمد, استيعابا حيا وشاملا ومتحركا للإسلام ومصادره, وورعا معمقا يروض نفسه عليه, ليصبح قوة تتحكم في كل وجوده وسلوكه, ووعيا إسلاميا رشيدا على الواقع, وما يزخر به من ظروف وملابسات ليكون شهيدا عليه". وأما ما يتعلق بالتربية الأخلاقية للمرجع الجامع للشرائط, فقد اجتهدت الأطروحة الإسلامية في إخضاع المرجع الديني لتربية أخلاقية ووجدانية وعقلية مكثفة, حتى يسمو المرجع الديني في بنائه الذاتي, ونزاهته وإنسانيته, الى درجة تقرب من العصمة, والتي هي النزاهة المطلقة. وهذا لا يتأتى للمتصدي لمقام المرجعية, إلا من تمحص قلبه للإيمان, والتقوى, والخلق, والزهد. فأقل ما يُشترط في مرجع التقليد, كما جاء في الحديث عن الإمام العسكري (ع), أن يكون " صائنا لنفسه, حافظا لدينه, مخالفا لهواه, مطيعا لأمر مولاه" .والمرجع الديني, الفقيه والمجتهد, لا يمكنه الوصول إلى مقام المرجعية الدينية, وبالتالي لمقام الإمامة والقيادة للأمة؛ إلا بعد تجربة طويلة تكون الأمة التي تتعايش معه, والحوزة العلمية التي ترقبه عن كثب, قد اكتشفت فيه نزاهته وإخلاصه وتقواه. وهذا يعني أن المرجع الديني, لا يصل الى هذا المقام عن طريق انقلاب عسكري, أو عن طريق إعلام الصحافة الكاذب, إنما يصل إلى هذا المقام, بعد أن يتعمق وجوده في وسط الحوزة العلمية, وأمام العشرات والمئات من علماء الدين, حيث يراقبون مجموع تصرفاته. ومن خلال هذه الدائرة, ينتقل ليباشر وجوده مع الأمة. إذا, فوصول المرجع إلى مقام المرجعية, ليس بالعملية السهلة التي يتصورها البعض؛ بل هي تخضع في بنائاتها الأساسية, إلى الكثير من المجاهدات الأخلاقية والتربية الإلهية, إضافة إلى عامل الرقابة العلمية والمجتمعية لسلوك ونتاج المرجع, وجهوده الشخصية في المثابرة في تحصيل العلوم المتعلقة باختصاصاته وواجباته المناطة به.ويمكننا من خلال كل ما سبق قسم نتاج المرجع الديني الى قسمين , الأول : يتعلق بنتاجه العلمي في جوانب تخصصاته المتعددة, ويقصد هنا بالنتاج ما كان على صعيد التأليف أو التدريس أو الترقي العلمي, مع اقترانها باشتراطاتها الأخلاقية.. والقسم الثاني: ما يتعلق بنتاجه لحلول المشاكل المجتمعية, وما يواجه المسلمين من مشاكل حياتية وسياسية, يتطلب من المرجع الديني, أن يكون المرشد والهادي, إلى الطريق القويم, التي يجب أن يسلكها الإنسان, في سبيل الوصول إلى أفضل الحلول والنتائج؛ بما يتوافق مع إرادة التشريع الإلهية. في العراق, كان للمرجعية الدينية وخلال تأريخها الطويل مواقف مشرفة, قد لا يسع المجال في الخوض فيها. ومن أهم المفاصل التاريخية, التي مثلت دورا بارزا وقويا في تفاعل المرجعية كدور قيادي, مع مشاكل الأمة وهمومها؛ هو ما مثله الواقع الحركي لسماحة المرجع الديني آية الله علي السيستاني؛ حيث استطاعت هذه الشخصية وبقابلية إبداعية منقطعة النظير, أن تكون عنصرا حيويا فاعلا, ومتحركا ومتغيرا باتجاهات مختلفة, بحسب نوع الظرف الذي كان يلم بالأمة في وقتها. فلم يكن ذلك المرجع الجمودي المتقوقع على ذات عرفانية, تنتظر الفيوضات الإلهية, عِبرَ كرامات لا يلمس فائدتها إلا هو ومريديه؛ بل كان متفاعلا, بتأصيل الحلول العملية, ومراقبة ومتابعة ومحاسبة الجهات القيادية في إدارة البلد. بل وكان ملاذا آمنا, يلوذ بحكمته ورجاحة قراراته, كل مريدي العمل السياسي والإداري للبلد. إضافة الى أنه أصّلَ للمفاهيم السلمية في التعايش, وثبت أوتادا قوية لحقيقة الدين الإسلامي كدين للحياة السلمية وكمؤثر في حياة كل البشر, وليس للشيعة أو المسلمين فقط؛ يدفع بعجلتها نحو التكوين والتشكل الوجودي, لا نحو التميز والتفرق الماهوي.وفي رأيي, أن دوره ومنذ تسنمه قيادة المرجعية العليا, بعد أن اتفقت عليه آراء فضلاء الحوزة وعلمائها في بداية التسعينات؛ انقسم إلى مرحلتين زمنيتين مختلفتين, الأولى: تلك الفترة التي أردا بها الطاغية الملعون, إخلاء الوسط الحوزوي من وجوده الرجالي؛ فعمد إلى تصفية الشخصيات المرجعية البارزة, لتخلو الساحة الحوزوية من لبها الجوهري, والمتمثل بالقيادات الحوزوية المرجعية الحقيقية. فكان لسماحته حسا قياديا حكيما, حافظ فيه على الوجود الإسلامي الشيعي, وتعامل فيه بمنتهى الحنكة والحذر من الانجرار الى مخططات الطاغية, والرامية إلى تحطيم أركان المذهب الشيعي في العراق, بعد تصفية أعمدته الحوزوية والعلمية. والمرحلة التاريخية الثانية, تبدأ من بعد سقوط الطاغية, وهي الأصعب؛ وتمثلت في قيادته للجانب التوجيهي والإرشادي للعملية السياسية في العراق؛ بالإضافة إلى الجانب الواقعي المجتمعي, من خلال التداخل المباشر, مع مستجدات الفعل الشرعي في ممارسة المواطن العراقي؛ وكان سماحته ممثلا لجانب الحكمة والعقلانية, في الإتجاهات المرسومة لبناء الدولة العراقية الحديثة؛ كما أنه مثل في فترة الاحتقان والاقتتال الطائفي, درعا وقائيا, دفع بعصا حكمته سفينة البلاد نحو بر الحفاظ على الوجود المجتمعي..وعلى الرغم من شهادة الكثير من فضلاء الحوزة وعلمائها, ومفكري وقادة عدد من مفاصل الإدارة الدولية, بحكمة هذا الرجل, واحتوائه على جنبة إلهية فيما يصدر عنه من أفعال وأقوال, مع تميز ونبوغ قل مثيله في النتاج العلمي والفقهي الحوزوي, وحنكة في التأثير الفاعل في إقامة أسس الدولة العراقية الحديثة؛ إلا انه لم يسلم سماحته من محاولات الاغتيال المتعددة, والتي أرادت تصفيته؛ طبعا مع تعدد وتنوع طرق وأساليب الاغتيال هذه. فمن الاغتيال والتصفية الجسدية أيام الطاغية المجرم, إلى الاغتيال من خلال المحاربة العلمية من قبل بعض (المتمرجعين) وأدعياء الفقاهة؛ إلى الاغتيال بأساليب التسقيط السياسي الرخيص؛ مع العلم أن سماحته كان يمثل حالة أبوية ومرجعية روحية تمثل منزلة ما فوق الممارسة السياسية. بعض الأحزاب السياسية في العراق, تعتاش في وجودها الانتخابي على لقمة التسقيط ! معتقدين واهمين أنها تعلي من شانهم! أو تلفت نظر البسطاء والسذج إليهم.!مقالة نزلت على مواقع الإنترنيت, لكاتبة مغمورة, اسمها (إيمان ألفاضلي)؛ ُمتَهَمَةٌ بأنها تابعة لأحد الأحزاب التي تدعي التدين!؛ كتبت مقالا, فيه الكثير من التطاول والتجاوز على شخص الإمام السيستاني؛ مدعية أن سماحته قد جانب الصواب, عندما رفض ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية والقضاء الجعفريين !؛ طبعا هذا الموضوع فيه الكثير من الموارد والإضاءات, والتي يجب التوقف عندها؛ وقد صدرت من المقربين لسماحته ردودا تبين زيف وبطلان ما تدعيه هذه المرأة. ولكن ما يهمني هنا في هذا الأمر, هو النظر إلى مفهوم التدخل في العمل السياسي من قبل الإمام السيستاني. ففي الواقع, أن سماحة الإمام السيستاني يكون له تدخل, في رسم أو تغيير مسارات العمل السياسي؛ بإشتراطية وجود الأرضية المناسبة والمتجاوبة مع ما يراه الأنسب والأصلح. فحكمته كانت تقتضي التصرف بحذر مع كل الملفات والمعطيات؛ وحكمته العملية دعته إلى العمل بصمت, ولكنه صمت قتل المخططات الغربية, التي كانت تنوي تغريب العراق, وإخراجه عن شكلانيته الإسلامية. حكمته كانت تستدعي منه أن تكون تدخلاته, مدعاة إلى لم الشمل العراقي وتوحيد كلمة المسلمين, وهو كان يعلم جيدا أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه من خلال الصدام الإجرائي, مع الأطراف المتنوعة والمتناحرة في الخارطة السياسية العراقية. العمل بصمت, وفي كثير من الأحيان, يعد أسلوبا وإستراتيجيا ناجحة, في التصدي لموج وتيار عالي محطم؛ عادة ما يكون استجابة ظرفية لواقع تُفرض فيه متغيرات قوية, لا ينفع التعامل معها بالصوت العالي, والعواء الكاذب, كما هو منهج الكاتبة ومن خلفها!. إذا, الظروف هي التي تحكم وتتحكم بنمطية الاستجابة التي تُفرض على المتصدي لقيادة الأمة, وهناك الكثير من الأمثلة في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام, تصدق كمثال للتغيير المستمر, في التعاطي مع الأحداث بحسب الظروف؛ فنرى من الأئمة من لزم الصمت فترة من الزمن, حفاظا على وجود الإسلام, ومنهم من كان تكليفه التصدي بحمل السيف, كذلك حفاظا على وجود الإسلام, ومنهم من تصدى بالجهر بنشر العلوم ... الخ الخ .. إذا فمتغيرات الساحة الاجتماعية والسياسية, هي التي تفرض على المرجع أدوات التعاطي المناسبة؛ وأن المصلحة العليا للمسلمين, هي التي تفرض على المرجع الديني, الحذر في التعاطي مع الملفات التي يواجهها, كمشاكل تتطلب حلول.. وأخيرا, ألا ترون أن هناك تقارب عجيب بين كلمتي ( ألفاضلي و الفضيلة !!!) .. بقلم : محمد أبو النواعير - ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر -باحث مهتم بالآديولوجيات السياسية المعاصرة ..
https://telegram.me/buratha