المقالات

جنازة صدام الحارة في القاهرة!

1664 15:28:00 2007-01-10

( بقلم: عبد المنعم سعيد)

حينما يكتب المؤرخون في الأزمنة القادمة تاريخ هذه المرحلة من أيام الأمة العربية، سوف يعجبون عجبا شديدا من الموقف الذي اتخذه المثقفون والمعنيون بالشأن العام من حدث تنفيذ حكم الإعدام في الرئيس العراقي السابق صدام حسين. فخلال العقدين السابقين على الحدث على الأقل كان حديث النخبة العربية في العموم قد غلبت عليه موضوعات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بل أن جماعة منهم تنادت من أجل إنشاء الجمعية العربية لحقوق الإنسان، فراحت تنشئ لها فروعا وجماعات في العديد من الدول والأوطان.

وحينما جاء العصر بالفضائيات التلفزيونية وشبكات الإنترنت والصحافة المهاجرة، ذاع الكلام عن الأنظمة الديكتاتورية العربية وممارساتها القمعية، حتى وصل الحديث إلى الصحف المقيمة والنشرات السرية والعلنية. وكان كل ذلك كافيا لكي تنشأ حوله شبكة واسعة من الجمعيات والاتحادات والنقابات التي خصصت مهرجاناتها ومؤتمراتها وتجمعاتها لتمجيد الحرية والدفاع عن حقوق التعبير والمشاركة السياسية، والوقوف ضد الطغاة على تعدد ألوانهم وأشكالهم. وخلال الأعوام الأخيرة أصبحت القاهرة مركزا مهما لكل هذا الفكر الإنساني بحيث لا يمر يوم إلا ويصدر بيان أو إعلان يخص الدفاع عن مسجون بغير حق، أو رثاء لرجل قتل دفاعا عن قضية دون عدالة؛ وكانت نقابة الصحفيين المصريين، ونقابة المحامين المصرية في مقدمة المدافعين عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.كل هذا التراث سقط فجأة مع إعدام  صدام حسين، فقد أصدرت نقابة الصحفيين المصريين بيانا ينعى الرجل ويمجده لم يُستشر فيه أحد من الصحفيين؛ أما نقابة المحامين فقد عقدت مؤتمرا كاملا لتأبين فقيد الأمة والإشادة بمناقبه. وكان مفهوما في كل الأحوال الاستنكار الخاص بتوقيت إعدام الرجل، بل والملابسات التي ألمت بعملية إعدامه وفقدانها المعايير الإنسانية، أما أن يتم غسل الرجل من أدرانه وتاريخه الملوث بدماء الضحايا والشعوب، بل والمسئولية عن كل ما ألمَّ بالعراق من نوائب، والمنطقة العربية كلها من كوارث؛ فذلك سيشكل أعجوبة كاملة للمؤرخين، حتى يوضع هؤلاء المثقفين جميعا موضع المساءلة، ويضع مصداقيتهم الديمقراطية موضع الامتحان.وللحق، فإن القاهرة لم تكن وحدها التي وقعت في هذا النفاق التاريخي، بل وقعت فيه عواصم عربية شتى. وكانت دهشتي بالغة عندما تابعت رسائل الإنترنت تعليقا على خبر الإعدام المنشور في مواقع قنوات «الجزيرة» و«العربية» وصحيفة «الشرق الأوسط» وغيرها من الصحف، فإذا بالأغلبية الساحقة منها تأتي من المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية الخليجية الأخرى، وأكثرها لا يستنكر فقط توقيت الإعدام وملابساته، أو حتى طالب ولو بأثر رجعي بضرورة محاكمة صدام وصحبه أمام محكمة دولية عادلة، وإنما أضفت على الرجل من هالات البطولة والفداء والشهادة، ما يضعه بين الأبطال والشهداء والصديقين. أما الشعب الفلسطيني فقد خرجت مظاهراته كثيفة ـ رغم الاحتلال والاحتقان بين فتح وحماس ـ لا تندد فقط بمن قاموا بالإعدام فجر عيد التضحية بل تضيف لها صورا لبطولة الرجل وقيادته الخالدة للأمة العربية.لاحظ هنا أننا أمام  صدام حسين الذى بدد ثروات العراق في مغامرات خاسرة، والذي قام بغزو الكويت وأنهى دولتها واغتصب أموالها ونساءها. وطوال حكمه قام بما لم يقم به قائد في التاريخ العربي من الإذلال لشعب كريم. وكأن أحدا من المثقفين العرب لم يشهد الوثيقة الفيلمية التي سجل فيها صدام شخصيا عملية إعدام رفاقه من قيادات حزب البعث في العراق، ولم يعلم بقوانين «الترشيق» التي فرضت على الموظفين العراقيين أحجاما وأوزانا بعينها، أو بعمليات قطع الألسنة وجدع الأنوف وسلخ الآذان ودفن الأحياء، والقتل بالأسلحة الكيماوية، وتهجير العراقيين ودفنهم في الصحراء الواسعة. ولم يخل مؤتمر عربي واحد خلال العقود الأربعة الماضية من حكايات ونوادر الطغيان التي كان أبطالها صدام وابنيه عدي وقصي وبقية عائلته، وما جرى في لقاءات ـ أو نفاقات ـ في لقاءات صدام المهينة بالإذلال مع الشعراء والأدباء العرب. وكم من المرات ساد الضحك بين المثقفين العرب عند قراءة روايات صدام، ونصائحه الغالية إلى الأمة، وانتشر التندر بتماثيله وقصوره. وفي الحقيقة، فإن أحدا من المثقفين ـ بمن فيهم البعثيون والقوميون العرب ـ كان غافلا عن تراث الرجل وجرائمه، بل أن بعضهم وقد اشتدت به الصرعة الديمقراطية كان مستنكرا لحصول الرجل على نسبة 100% في آخر الانتخابات العامة التي أجراها في العراق.كل ذلك كان معلوما ومذاعا، ولم يكن معلومات مدسوسة دست من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بل أن بعضا من هذه المعلومات كان علنيا وتم بثه أحيانا عن عمد من المصادر العراقية ذاتها حتى تقوم أركان «جمهورية الخوف» وتثبت أركانها. ولكن أيا من ذلك لم يفت في نسبة غير قليلة من الجماعة السياسية العربية لكي تعلن حالة من الحداد ولطم الخدود لم يحصل عليها عربي واحد ممن قتلهم أو عذبهم صدام وزبانيتُهُ. وعلى الأرجح أن المسألة لم تكن أبدا الاحتلال الأمريكي والرغبة في لعنته أو الخلاص منه، أو حتى تأييدا للمقاومة العراقية، وإنما كان ذلك خيانة لمفهوم الحرية والديمقراطية وحق الشعوب العربية في العيش في حياة حرة وكريمة. وربما لو كان هناك اعتقاد أصيل في مثل هذه المبادئ لجرى تقييمٌ حق لتاريخ الرجل وأدائه وتم الانتصاف للشعب العراقي قبل النظام الصدامي، وللإنسان العراقي قبل شخص الرئيس الذي أعطى لنفسه أسماء مقدسة بلغت تسعة وتسعين اسما مضاهيا في ذلك نفسه بالله سبحانه وتعالى.ولكن السؤال يبقى لماذا جرى ما جرى؟ ولماذا كان ما كان؟ ولماذا سقط المنادون بالحرية والديمقراطية في الامتحان؟ ولماذا تنعى نقابة الصحفيين المصريين شخصا لم يصنع أبدا صحافة حرة بل أنه طارد الصحفيين العراقيين حتى نهاية الأرض، وعذبهم حتى آخر النفس؟ ولماذا تعقد نقابة المحامين المصريين مؤتمرا لتمجيد رجل لم يُقِمْ أبدا معيارا للعدالة أو مقياسا للحق، بل أن تاريخه كله كان احتقارا وامتهانا لمهنة المحاماة والقضاء؟. ولماذا ينبري مواطنون عرب يشكون صباح كل يوم من قلة الحرية وغياب الديمقراطية وامتهان حقوق الإنسان، للدفاع عن رجل لم يترك فرصة إلا وانتهزها لانتهاك ذلك كله، بل والتعبير بشكل كامل عن احتقاره لهذه القيم؟الحقيقة أنه لا يمكن حسبان ذلك كله استنكارا أو رفضا للاحتلال، أو حتى استنكارا ورفضا للطائفية، وإنما كان ذلك تمجيدا وتأليها للطغيان والاستبداد فس أنقى صورهما.وتفسير ذلك ربما لن يكون صعبا كثيرا، فالاستبداد والطغيان الطويل يولد أمة تعتقد أن كلاهما علامة من علامات النضال والكفاح والبطولة والقدرة ـ كما يقال ـ على قول «لا». ولما كان ذلك كله يقوم على آيديولوجية قومية تعطي الشخص القائد «رسالة خالدة»، فإنها تنتهي به حيا وميتا إلى حيث تجلس الآلهة، ويصبح الدفاع عنه بعد خذلانه للأمة نوعا من الدفاع عن الذات التي هتفت كثيرا ونافقت طويلا. وعندما وجد هؤلاء جميعا أن فكرهم صار دوما إلى هزيمة وأفول، أصبحت الديمقراطية والحرية صيحة للعصر ما لبثت أن سقطت عند الامتحان فيصير كل ديكتاتور أو مهرج في العالم زعيما، وكل من يقود الأمة بالمغامرة أو المقامرة إلى حتفها بطلا. ملاحظة: المقال منشور اليوم في الشرق الاوسطوالكاتب مصري شريف من الاقلام المصرية النادرة الغير كوبونيية

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك